الشك غريزة سلوكية إنسانية مثلها مثل الثقة والأمل والخوف والشجاعة والفرح والحزن، مفاتيح أمان للإنسان، تنمو مع حاجاته الأساسية في الحياة، لتضمن له توازنه فيها وعيشه السليم. مثلها مثل غرائزه الطبيعية الجسدية، الجوع والعطش والشبع والإحساس بالحرارة وبالبرودة لتضمن له سلامته وبقاءه على قيد الحياة. وبرغم أهمية الغرائز بالنسبة للإنسان، كمفاتيح أمان له، إلا أنها تفقد قيمتها، وقد تنعكس سلبيا عليه عندما تزيد عن حدها الطبيعي.

     فإذا زادت غريزة الشجاعة عند الإنسان، عن حدها، تتحول إلى تهوّر تؤدي به للمهالك. كما أن غريزة الخوف عندما تزيد عن حدها عند الإنسان قد تؤدي به إلى المهالك أيضاً، مثلهما مثل غريزتي الجوع والشبع. فعندما تنعدم غريزة الجوع عند الإنسان، تؤدي به لنقص التغذية والهزال، ونقص المناعة، فتعرضه لفتك الأمراض به، مما يؤدي لوفاته. وبنفس الوقت فإن تعطل غريزة الشعور بالشبع، تؤدي به إلى الإفراط في الأكل، مما قد يعرضه للإصابة بأمراض التخمة التي تقضي على حياته كذلك.

     إذاً فالغرائز بنوعيها الطبيعي والسلوكي، هي نـِعَمٌ من الله على الإنسان، إن أحسن استخدامها بتوازن وروية. والإنسان بشكل طبيعي، يكتشف أي خلل أو عطل في غرائزه الطبيعية لكونها، جبلة طبعه الله عليها. فإذا فقد إنسان غريزة إحساسه بالحرارة، واقترب من النار فستحرق جزءاً من جسده، ويتنبه لذلك. أما مسألة تعطل أو خلل غريزتي الجوع والشبع ، فيتم معالجتهما بأدوية فاتحة أو مقللة لشهية الأكل.

     أما المعضلة الحقيقية فتكمن في خلل الغرائز السلوكية عند الإنسان. فمن الصعب أن يكتشف الإنسان الخلل السلوكي لديه من ذاته، والأكثر صعوبة هو أن يقنعه الآخرون بأن لديه خللا في سلوكه. مثلما يقول المثل الشعبي " كلن بعقله راضي..." ، إذ الغرائز السلوكية للفرد هي نتاج تربية عائلية أو مجتمعية. من الصعب أن يكتشف الإنسان نفسه أنه بخيل، ناهيك عن إقناعه بأنه بخيل. إذ هو يرى أن تصرفه هذا طبيعي، وأنه مُرشّد بالصرف، ولا يـُبذر، ويبدأ يسوق آيات قرآنية وأمثالا يبرر بها بخله الطاغي هذا. ويفعل نفس الشيء الإنسان المبذر، الذي يعتبر تبذيره نوعا من الكرم؛ حتى ولو أدى ذلك الخلل في سلوكه، إلى إفلاسه وتراكم الديون عليه. كما أن الإنسان كثير الشك والظن في الآخرين، ويعتبر سلوكه هذا سلوكا احترازيا طبيعيا وفطنة منه؛ يطالب الآخرين بالثناء عليه لهذه الميزة، لا لومه عليها.

     وبما أن الخلل في غريزة سلوكية ما، يكتسبها الفرد نتيجة تربية عائلية ومجتمعية، فعندما تنتشر في عدد كثير من أفراد المجتمع يصبح المجتمع كله مصابا بخلل في توازن إحدى غرائزه السلوكية؛ وهنا تكمن المعضلة الكبرى؛ إذ تتحول المشكلة من خلل في غريزة فردية، إلى خلل في ثقافة جماعية. وهنا تكمن الخطورة. ومن الصعب إقناع فرد بوجود خلل في سلوكه؛ فكيف يتم إقناع مجتمع كامل، يُسخر كل إمكانياته الثقافية والدينية والتعليمية والعلمية والمعنوية وبشكل تعسفي، لتبرير خلله السلوكي هذا؛ إن لم نقل يعتز بها ويعتبرها ميزة تميزه عن باقي خلق الله قاطبة. وهذا بالضبط ما نعانيه كمجتمع من انتشار وتفشي ثقافة الشك لدينا في اقتراب الذكور من الإناث.

     فقد أوردت جريدة "الرياض"، قبل عدة أشهر خبرا مفاده أنه أمام مدرسة ثانوية للبنات خلال انتظار أولياء الأمور بناتهم للخروج منها، تم الشك برجل يقف عند باب المدرسة، بدا من هيئته أنه شاب يريد مغازلة البنات والتحرش بهن أو التقاط إحداهن. عندها ذهب بعض أولياء أمور الطالبات لحارس المدرسة، يبثون له شكوكهم بهذا الرجل المشبوه. حارس المدرسة بدوره، أخبرهم بأنه يشاطرهم الشك في أمره كذلك. فقرروا التخلص من أذى هذا المشبوه لبناتهم، وإلى الأبد إن أمكن. فاتصلوا بمركز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي بدوره أرسل فرقة وصلت للموقع بسرعة قياسية خشية هروب المرتاب به.

     وصلت سيارة الهيئة واُلقي القبض على المشتبه، الذي حاول شرح الأمر، إلا أن أحدا لم يعطه فرصة للسؤال عن جريمته ناهيك عن منحه فرصة النقاش. وأثناء محاولة دفع الرجل لسيارة الهيئة لإركابه بالقوة، خرجت فتاة من المدرسة وتقدمت للرجل المشتبه به ونادت عليه بأبيها وسلمته شنطتها، وسط ذهول الجميع، الذين بادروا بالاعتذار إليه وتقبيل رأسه راجين منه العفو. قبل الرجل مضطراً الاعتذار. وكان مصدر الشك في الرجل، كما أورده الخبر، ناجما عن كونه أنيق الهيئة والهندام، ويبدو وكأنه شاب.

     والسؤال المنطقي الذي يطرح نفسه في مثل هذا الموقف: لماذا لم يتقدم حارس مدرسة البنات للرجل، عندما شك به بعض أولياء الطالبات، فيسأله عن سبب وجوده عند باب المدرسة؟ عندها سيخبره الرجل بأنه ينتظر ابنته، فيطمئن الحارس بدوره أولياء أمور البنات، على سلامة أعراضهم، لتعود عقولهم إلى قواعدها سالمة غانمة.

وبما أن هذا لم يحدث، أفليس من الأجدى بأن من استلم البلاغ بمركز الهيئة أن يتحدث مع حارس المدرسة، ويطلب منه أن يذهب للرجل، ويسأله عن سبب وقوفه أمام المدرسة، فإن لم يكن لوقوفه أي داع يطلب منه مغادرة المكان، فإن رفض الرجل، يخبرهم الحارس بذلك، ليتم إرسال دورية الهيئة لتعالج الوضع بطريقتها الرسمية. هذا لم يحدث بالطبع، والذي حدث هو خذوه فغلوه، فلماذا حدث هذا؟

     حدث هذا، لأن غريزة الشك لديهم قد زادت عن حدها الطبيعي التي أرادها الله؛ ولذلك ألغت لديهم غريزة حسن الظن وحتى المنطق والعقل. وقد حذرنا الله تعالى من طغيان غريزة الشك والظن السيئ، فقال ( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ). والغريزة السلوكية عندما تزيد عن حدها تنقلب إلى ضدها، وتتحول لمرض يتحتم معالجته. والأمراض النفسية مثلها مثل الأمراض الجسدية إن لم تعالج بوقتها تستشري وتستفحل. وحيث الأمراض النفسية، عكس الأمراض الجسدية، لا تؤلم صاحبها وإنما تؤلم الآخرين، لا يبادر المصاب بها إلى البحث عن علاج لها، هذا في حال كونه مقتنعا بأنه مصاب بها أصلاً.

     قبل أسبوع ظهر في برنامج حواري متلفز حول إمكانية تعليم المعلمات للبنين في الصفوف الابتدائية الأولية، فاعترض على الفكرة أحد الأكاديميين التربويين، بحجة أن الطفل "سبع سنوات" يمكن أن ينقل أوصاف المعلمة لوالده! كما حذر كاتب في كتاب له عن "حراسة الفضيلة" من وجود الاختلاط في الروضات والتمهيدي.

     الشك إذا لم يتم التدخل لمعالجته، ينتقل من وهم لخوف ومن خوف لهاجس ومن هاجس لهوس، ومن هوس لهستيريا ومنه للجنون. وأخشى ما أخشاه أن بعضنا قد وصل لمرحلة الهستيريا في مسألة إدارة العلاقة بين الذكور والإناث في مجتمعنا. إذاً فلا تعجبوا أبداً إذا خرج علينا من يطالبنا بفصل حضانات المواليد الجدد في المستشفيات، غرفة حضانة للأولاد وأخرى للبنات، بدعوى أن العلم الحديث قد أثبت، أن ذبذبات تخرج من الأعضاء التناسلية للمواليد الجدد وتتحرك في فضاء الغرفة الواحدة ويحتك بعضها ببعض!