كان ظهور السيدة جواهر بنت الشيخ علي زوجة الشيخ أحمد الغامدي برفقته كاشفة عن وجهها في برنامج بدرية على قناة mbc الأسبوع الماضي قضية لم يهدأ أوارها حتى الآن، وكشفت معها ما كشفت من هشاشة واندفاع في التفكير الجمعي، وجدل عقيم ما زال الكثير من بني قومي-كبيرهم وصغيرهم، عالمهم وجاهلهم- مشغولين به، ويسخرون له أوقاتهم وأصواتهم وشتائمهم، بينما الأمم حولنا تتسابق في ميادين العلوم والمعرفة والتطور.

قضية أن الحجاب مسألة مختلف فيها فقهيًا ليست بالأمر الجديد كما يعرف الجميع، والدليل آلاف السيدات السعوديات وغير السعوديات اللاتي لا يغطين وجوههن ولا أحد ينكر هذا ولا يتعرض لهن بسوء، بل إن هناك من يتابع برامج تقدمها "فقيهات" في قنوات تصنف نفسها بالمحافظة ولا ينكر عليهن ذلك أحد، غير ملايين المسلمات المحجبات حول العالم، لا يمكن القول إنهن مخالفات للدين أو "الإسلام السعودي".

هذا الاختلاف بين الفقهاء والمذاهب الذي نسمع منذ صغرنا أنه "رحمه"، لم يعد كذلك الآن. والعلماء أنفسهم يعلمون أن تلك المذاهب وُضعت أُسسها في عصور محددة وكانت هذه الأُسس تتناسب مع أوضاع تلك العصور السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي توجد وقتها. فالشريعة فيها سعة وفسحة من الأمر واستيعاب لكل زمان وتيسير لأمور البشر وحماية لإنسانيتهم. حتى اجتاح الناس قبل أكثر من ثلاثين عاماً مشايخ زرعوا في البسطاء عقدة الذنب الدائمة من كل شيء، وربطوا أقدام فهمهم بتصريح منهم يصنف الأشياء إلى حرام أو حلال حسب ما يرون فقط، وكأن روح فرعون تتلبسهم حينما قال: "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد".

هذا التضييق على المسلمين في الجوانب الفقهية التي فيها سعة، والهجوم على من يخالف رأي الأغلبية وهو يستند لأدلة شرعية ثابتة، كما حدث مع الشيخ الغامدي وزوجته، هجوماً شرسًا لا أخلاقيا يصل للتهديد بالقتل، مع التعنت بالرأي من الطرف الآخر وتحويله الأمر من قضية فقهية فيها سعة ويملك الإنسان المعني بها (المرأة) الخيار والقرار في اتخاذها أو لا، إلى أمر شخصي وتطاول على الأعراض والحريات، سبب في تشويه الإسلام والتنفير منه وهو الجريح كفاية بما يفعله الإرهابيون باسمه حول العالم.

في الأسبوع الماضي ومع هذا الضجيج حول وجه جواهر الذي أقلق الكثير، صادف أن أعلن الدكتور سعود الخلف رئيس الجمعية العلمية السعودية لعلوم العقيدة والأديان والفرق والمذاهب بالجامعة الإسلامية عن إنشاء مركز لمعالجة النزعة الإلحادية واللادينية تحت اسم "يقين"، يهدف هذا المركز حسبما أُعلن إلى تحليل الخطاب الإلحادي المعاصر للشباب ومحاولة الحد من تأثير هذا الخطاب بإقامة ما يلزم من ندوات ومحاضرات ومؤتمرات وتأليف كتب ومطويات ورسائل لمواجهة المد الإلحادي في السعودية. وعلى الرغم من أن الإحصاءات غير دقيقة في توضيح النسبة الحقيقية للملحدين بيننا، إلا أن إنشاء مثل هذا المركز أمر جيد إذا ما وظف بطريقة فاعلة ومفيدة للفئة الموجه لها الخطاب (الشباب)، مع أنه من المستغرب أن يعتبر الإلحاد ظاهرة في مجتمعنا المتدين بطبعه الذي يدرس الكتب الدينية بكثافة لاثني عشر عامًا، ويحاط بعشرات القنوات الدينية وآلاف الندوات والمحاضرات والخطب والمحافل الإرشادية في البيت والشارع والإعلام، إلا إن كان كشف الوجه وحلق اللحية وسماع الموسيقى تصنف من ضمن الإلحاد، فهذا شأن آخر.

إن جيل الشباب المتوثب اليوم للمعرفة والذي فُتحت أمامه الآفاق للتواصل مع العالم والاطلاع على ما فيه، مصاب بالإحباط والصدمة لحجم الهوة بين ما يراه من تفاوت حضاري ومعرفي بيننا وبين ما وصل له الآخر وما يريد أن يحققه. هذه الآفاق التي فُتحت للشباب اليوم مع ما لدينا من خطاب ديني جامد يعتمد على التلقين والترهيب والإقصاء جعلت عقائد البعض تهتز وترتبك، فمنهم من يبدأ يكسر قانون التلقين الذي اعتاده ويبحث عما يحرك عقله ويقنعه فيزداد إيمانا عن قناعة، والبعض الآخر قد يجد في هذه الفُرجة من المعرفة سببًا للبعد عن الدين كردة فعل للتغييب الذي كان فيه.

إن عقول الشباب اليوم متعطشة للمعرفة والعلم والمنطق، ويؤلمها أن تجد شيخا يجتهد ويمارس حريته الشخصية باتزان ثم يواجه هجوما شديدا من مشايخ آخرين. ومثل مركز "يقين" إن لم يحقق مثل هذا التطلع الذي يرضي حماسهم وعقولهم ويجيب عن تساؤلاتهم، فلن تفلح الصورة البدائية في إلقاء محاضرات وخطب وتوزيع منشورات ومطويات أو إقامة مؤتمرات لن يحضرها إلا المدعوون والمؤسسون لها، ويقدمها ويديرها من اعتدنا مشاهدتهم في البرامج الحوارية التي تتناول شؤون الدين، لكنهم يشتمون هذا ويحقرون من شأن هذا لأنه خالفهم، أو أولئك الذين يقفون على منبر يدعون بالويل والثبور للأمم الأخرى ثم يحطمون آلات موسيقية وترفيهية بتشف وانتقام، ويكونون سببا في بقاء المجتمع في ذيل قائمة الأمم المتحضرة بمنعهم كثيرا من المباحات كدراسة الفلسفة والفنون أو إنشاء المسارح والسينما والتعامل مع المرأة وقضاياها بدءا من وجهها وحتى قضاياها الإنسانية البسيطة بتمييز وتحيز.

حينما تصرف الغامدي وزوجه بيقين وقناعة عما يؤمنان به، وقف ضدهما نصف المجتمع دون وجه حق. ولا نستبعد أن يكون كثير من النصف الآخر يؤمن أن هذا حقه وخياره الذي وصل له بعلمه وعقله وبتحرره من سُلطة التلقين والتأويل الجاهز للنصوص، وربما يكون هناك بعض من ذلك النصف أصابه اليأس أكثر من هذا الجدل العقيم فخرج عن ربقة الدين بأكمله!