قصة تسجيل المدوّنات والمنتديات التي أبدعتها وزارة الثقافة والإعلام، تحولت إلى كابوس، وهي مثل أفلام الرعب تحتوي عدة نهاياتٍ زائفة: كلما ظننت أن الفيلم انتهى تكتشف أنه أخذ منعطفاً جديداً وسيستمرّ، وهو فيلم ممتع بالمناسبة (ليس للوزارة بالطبع). أكتب الآن صباح الثلاثاء، وقد استعاد الموضوع نشاطة على تويتر بعد أن نشرت مدوّنة تقنية برازيلية الخبر مجدداً، والمدوّن البرازيلي يبدو ثائراً جداً وداعياً إلى التضامن مع "الرفاق السعوديين" على حد تعبيره (شكراً يا Jacques nunes)، وفي هذه اللحظة هناك حركة ملحوظة على صفحة (Haza3 #).

الرفيق الطيب Jacques nunes لم يُخطئ فهم جوهر الموضوع رغم أنه في النصف الآخر من الأرض، بل إنه بدا أكثر قدرة على فهمه من بعض مستخدمي الإنترنت السعوديين. فوزارة الثقافة والإعلام أكدّت بلغة واضحة وقاطعة وفي تصريح تلو الآخر منذ إبريل الماضي، أنها تسعى إلى تنظيم عمل النشر الإلكتروني بما في ذلك المدوّنات والمنتديات، لكنّ أغلب مستخدمي الإنترنت السعوديين أقنعوا أنفسهم آنذاك أن محاولة ضبط التدوين فكرة جنونية وأنها لا تزيد عن كونها زلة لسان، حتى أكّد الناطق باسم الوزارة السيد عبدالرحمن الهزاع الأسبوع الماضي لقناة (العربية) أنه يعني تماماً ما ردده منذ البدء. عندها أبدع مستخدمو تويتر الظرفاء هذه العلامة Haza3 # لتندرج تحتها تعليقاتهم حول الموضوع، وأبدعوا أكثر عندما تعمّدوا نشر الخبر بالإنجليزية.

خلال يومين اضطرت الوزارة إلى إعطاء تصريح إلى وكالة الأنباء الفرنسية تؤكّد فيه أنها "لن ترغم أحداً على التسجيل، لكنها ستشجع ذلك فقط...". هناك تفاصيل لافتة في هذه القصة، فبينما كان التصريح المعطى للاستهلاك الخارجيّ مهتماً بالتأكيد على حرية المدّونين في تسجيل مدوّناتهم أو عدم التسجيل، فإن التصريحات المعطاة للاستهلاك الداخلي كانت شديدة الاهتمام – والصراحة – في تأكيدها على أهمية إخضاع النشر الإلكتروني للرقابة من أجل حماية المتضررين من النقد. من اللافت أيضاً أنه لا يمكن الجمع بين التصريحين منطقياً، فـ"حماية المتضررين من النقد" وضبط النشر الإلكتروني، هدف لا يمكن تحقيقه إلا بإخضاع الجميع للرقابة والمحاسبة حسب نظام المطبوعات والنشر، ولا معنى على الإطلاق لقول إن الوزارة ستُخضع للرقابة من يتطوّع لذلك!

أما إشارة الوزارة إلى كونها قد استشارت عدداً من الناشرين الإلكترونيين والمدوّنين في قضية الضبط والتنظيم؛ فإنها قد حصلت هذا الأسبوع على استشارة موسّعة صوتت بالرفض وبأغلبية ساحقة.

من اللافت أيضاً تأكيد تصريحات الوزارة على أن إشرافها على النشر الإلكتروني لن يعني سلبهُ حريته. الوزارة ذاتها لم تتمكن من حماية حرية المطبوعات التقليدية ولا العاملين فيها، فمن الغرابة بمكان أن تعد الناشرين الإلكترونيين بما لم تستطع تقديمه لسواهم. وأخيراً، من اللافت أن وزير الثقافة والإعلام الحريص على التواجد في مختلف أشكال الإعلام الجديد والشبكات الاجتماعية (فيسبوك، تويتر، منتديات)، لم يكن مهتمّاً بالتعليق على الموضوع.

القصة الجيّدة تحتوي دائماً على عبرة. في هذه القصة عددٌ من العبر. أهمها أن العقلية الإدارية من ناحية لا تجد مبرراً لعدم مراقبة وضبط أشكال التعبير، إلا كون هذا متعذراً عملياً، لأن عدد المدونات كبير وليس لأن من حق المدوّن أن يكتب بحريّة، ومن ناحية أخرى، تعجز هذه الذهنية الحكومية عن إدراك أن ثمة ما لا يمكن مأسسته وتحويله إلى دائرة حكومية أخرى تحتاج إلى "ترخيص و إجراءات إدارية" وإلا فقد معناه . الإعلام الجديد هو نمطٌ من الممارسة الأهلية، المدنية، التي تجري بعيداً عن القبضة المؤسساتية الرسمية ويجب أن تظل كذلك في أيّ مكان، وخصوصاً في السعودية حيث لم يفقد الإعلام التقليدي مصداقيته إلا بفضل المؤسساتية الرسمية و قبائل المراقبين التي تفرّق دمه بينها، فاكتسبت الصفحات الإلكترونية مصداقية فوق العادة. العِبرة الأخرى من القصة: في ظل هذا الإطار، عندما تلمّح المؤسسة الرسمية إلى رغبتها في تحجيم أيّ قناة للتعبير يجب أخذ الأمر بجدية كاملة، أما عندما تعد بأن هذا لن يمثل "هيمنة ولا حداً من الحريات"، فللأسف، لا يمكن أخذ هذا الوعد على محمل الجد. عِبرة إضافية: عندما يتعلق الأمر بالحريات، أترك دائماً نسخة إضافية باللغة الإنجليزية، من أجل الرفيق Jacques nunes.