حاول ثلة من الإرهابيين مؤخراً التسلل إلى حدود الوطن الشمالية للنيل منه، وقد نتج عن ذلك مقتلهم جميعاً، واستشهاد ثلاثة من حرس الحدود وهم العميد عودة البلوي والعريف طارق حلوي والجندي يحيى نجمي رحمهم الله، وإصابة عدد آخر بينهم ضابط برتبة عقيد ندعو لهم جميعاً بعاجل الشفاء.

نقدر جهود وتضحيات أفراد أجهزة الأمن في بلادنا، من حرس الحدود وغيرهم، الذين استطاعوا على مدى سنوات إفشال العديد من المخططات الإرهابية التي تهدف إلى ضرب مقومات الوطن الأساسية، وخاصة أن "الإرهاب" قادر على إعادة إنتاج نفسه في كل مرة يفشل فيها في اختراق الحاجز الوطني الأمني والمجتمعي؛ مما يعني أن نسبة كبيرة من تغذية "الإرهاب" تتم من الداخل، وهذا الأمر لمسناه منذ عام 2001، وقد ازداد هذا الخطر في السنوات الأخيرة، بعد التحولات والتطورات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط فيما سمي بـ"الربيع العربي"، الذي أثبت الواقع أنه ليس ربيعاً بل صيفاً لاهباً أحرقت ناره كل القيم.

ثمة أمر يجب أن يطرح للنقاش على طاولة الصراحة والشفافية، حيث إن في كل عملية أمنية يسقط فيها إرهابيون من الفتيان المغرر بهم في قبضة الأجهزة الأمنية دون قياداتهم ورؤوسهم الكبار، فبعض شباب هذا الوطن الذين استثمرت عقولهم لتدميره غير قادرين على العيش في المجتمعات الطبيعية، وهذا يعني العقول التي تلجأ إلى السلوك الإجرامي تحتاج إلى وقت طويل كي تتخلص من هذا السلوك، وليس الأمر حصراً على الفكر كمحرك لفعل الإرهاب وقتل النفس، بل هناك عوامل أخرى جينية ونفسية واجتماعية أظن أنها لم تخضع بعد للدراسات المعمقة، فالإرهابي لا يدرك خطورة ما يقوم به؛ لذلك لن يغيّر استراتيجية تفكيره بسهولة من خلال الإقناع، وهنا يجب مراجعة البرامج التأهيلية التي تخضع لها هذه الفئة ليكونوا أعضاء إيجابيين في المجتمع، حيث إنه من السهل القضاء على بعض معتنقي الإرهاب كأفراد، ولكن من الصعب القضاء على الفكر الذي ينهل منه "الإرهاب" ببساطة؛ فجذوره عميقة!

ومن يتابع وسائل التواصل الاجتماعي يلحظ مدى حجم التشدد الديني، باعتبار أن وسائل التواصل تتيح فرصة التعبير أكثر مما لو كان الأمر في البيئة الاجتماعية، بل إن سمة الاعتدال تكاد تكون ظاهرة غريبة ينال صاحبها الإشادة من جهة والكثير من الغضب وسهام اللعنات من جهة أخرى، وهنا يمكن القول إن من مارسوا "الإرهاب" هم أبناء المجتمع السعودي المتدين ولكنهم مع الأسف ضلوا عن الطريق القويم، ولكن في المقابل يوجد قوى "إرهابية" كامنة تؤمن بهذا الفكر وتؤيده وتنشئ الأجيال عليه، وهذا ليس جديداً، بل يمكن للباحثين تتبعه تاريخياً.

لهذا يجب أن نعترف -بشفافية- أنه لم تتم مواجهة هذا الفكر سابقاً، على الرغم من أن هذا الفكر هو الذي وقف أمام استكمال مسيرة التنمية لسنوات طويلة، منذ عهد الملك عبدالعزيز رحمه الله ومحاولات بعض القوى السياسية المناوئة له استغلال هذا الفكر لتحقيق مكاسب سياسية ولم يجد الملك عبدالعزيز حينها بداً من مواجهة هذا الفكر ودحره بالقوة.

أيضاً يجب أن نعترف أننا نحن من فتح الباب لهذا الفكر ليدخل إلى المجتمع من خلال المناهج التعليمية، وليسيطر المؤدلجون على مفاصله تالياً، ونحن أيضاً من نفذنا مطالب هذا الفكر في مؤسسات الثقافة والإعلام التي غلب عليها الرأي الواحد، والتضييق على الحريات في ظل المتغيرات التي تبعت حادثة "جهيمان" التي تم فيها احتلال الحرم المكي، حيث تم دحر هذه المحاولة وأصحابها، ولكن بعدها حظي التيار المتشدد بفرصة كبيرة للسيطرة على المجتمع وتطويق الثقافة من خلال قمع المبدعين والمثقفين وتكفيرهم وإسكات أصواتهم وتنفير المجتمع منهم، إلى درجة أن هنالك -حتى يومنا هذا- من يستطيع الاعتراض صراحة على نشاط أي مؤسسة ثقافية ويستطيع منع نشاطها نظراً للدعم الذي يتلقاه، وهذا يقود إلى نتيجة مفادها أننا إذا ما أردنا مكافحة "الإرهاب" فيجب أن نقطع عنه كافة مناهله الفكرية، وأول هذه المناهل ثقافة المجتمع التي يجب أن تتجه إلى مزيد من احترام الاختلاف، وتحقيق مبادئ الحوار، وتغليب الرؤى العقلانية والوطنية على رؤى الإرهاب مهما كانت.

وعدم انحسار وتقلص "الإرهاب" هو نتيجة للمسبب الذي ما زال موجوداً. وهو بالدرجة الأولى الفكر الديني المتشدد، إلى درجة يمكن اعتباره كارثة حقيقية على المجتمع السعودي من خلال معاناة الأسر والأفراد في المجتمع السعودي من هذا الانحراف، وإذا ما استمرت هذه القضية الوطنية دون مكاشفة؛ فإن الفكر الذي يعمل كحاضن سوف يستمر في الإنتاج!