أعشق معارض الكتب. أزورها بشكل سنوي. في معرض الشارقة الأخير وكعادتي أمشي متسكعا بين المكتبات ودور النشر، أرسل نظري يمنة ويسرة في عناوين الكتب، أنتظر دعوة صريحة جادة من إحداها إلى مائدة آرائها وأفكارها؟، وأجلس متدللا بين هذا العنوان وذاك، مستنشقا رحيق هذا الكتاب أو ذاك، في فترة انقطاع عن الزمن تمر بي كأنها حلم جميل لا أستيقظ منه إلا حين يقولون إنهم يريدون إغلاق المعرض!

أتجول وأنا في حالتي هذه من العشق والهيام. أقف أمام كتاب دعاني بجرأة إلى تصفحه من دار نشر لا يجاوز مكان عرضها مترين في مترين.. يشدني آخر اشتريه وأضعه في حقيبتي. حقيبة سفر خاصة أجرها ورائي أضع فيها كتبي إذ أصبحت جزءا مني الآن. ولكأن الأفكار والآراء تسافر بك أو بأجزاء منك إلى عالم تحلم به وقد لا يكون له وجود! وأتابع تزودي لرحلة الأفكار وأغوص في صالات المعرض مرة أخرى ولا أخاف الغرق! إنه غوص لذيذ أعشقه.

وإذا انقضى المعرض وعدت أدراجي؛ أبدأ رحلتي في السفر مع هذا الكتاب أو ذاك، وأسمح لنفسي أن تطلق عنانها بعيدا في أعماق هذا الكتاب. ومرة وأنا غارق في بحور من التاريخ والفلسفة شدني كتاب فيه نقل عن عالم مؤرخ هو أحد علماء الكلام القدامى، وهو أبوالفتح الشهرستاني (ت 548 هـ) صاحب كتاب الملل والنحل عن محنة عظيمة أصابت المجتمع الإسلامي في وقت من الأوقات هي محنة خلق القرآن، ولا أهدف في هذا النقل إلا الإشارة إلى ضرورة فهم موقف الطرف الآخر وتحديد أصل المشكلة بدقة متناهية، إذ إن كثيرا من مواقفنا وآرائنا تصدر للأسف بناء على فهم مغلوط أو تصور خاطئ أو بناء على عاطفة فقط ولا رصيد علمي لها، ولا أنوي بحث هذه المشكلة -خلق القرآن- ولا التعليق عليها من قريب أو بعيد. وإنما أهدف فقط إلى أن تتأملوا وتستمتعوا معي:

كتب الدكتور عبدالرحمن سالم في كتاب التاريخ السياسي للمعتزلة: (فعسى أن يزول النزاع حين يكتشف كل طرف المعتزلة وأهل السنة أنه يتحدث عن معنى لم يدر في ذهن الطرف الآخر، وقد ضرب الشهرستاني مثلا لذلك هو الاختلاف حول قضية خلق القرآن، فالقائلون بخلق القرآن أرادوا به الكلمات والأصوات، والقائلون بعدم خلقه أرادوا به معنى آخر هو صفة الكلام القائمة بالله عز وجل، وهكذا فلم يتواردا بالتنازع في الخلق على معنى واحد". أي أن كلا منهما يتكلم عن الخلق من وجهة نظره هو. وعلى هذا فيمكن أن تصدق القضيتان!! -كما يصف الشهرستاني- أي لا يكون هناك نزاع بين الطرفين")! ويعلق الدكتور عبدالرحمن سالم: "إن الشهرستاني لمس بذلك موضع الداء وأجاد التشخيص كل الإجادة، ولو أدرك المعتزلة وأهل السنة المتقدمون ذلك المعنى إدراكا بينا لتصافح الفريقان وعاد العداء بينهما ودا خالصا ولجنبت الدولة نفسها بذلك مخاطر سياسية كادت تعصف بوحدتها وتماسكها"!

وتأملت أيضا في هذا الكتاب رواية نهاية هذه المحنة، ومرة أخرى تجد صوت العقل والحكمة يرتفع، إنه صوت المنطق والتفكير العلمي السليم المجرد من العواطف والمبالغات والمزايدات، إنه النظر إلى الأشياء بشكل مجرد يهدف إلى التجميع لا التفريق، إلى السلم الفكري والأمني والاجتماعي، في رواية نقلت في مناقب الإمام أحمد وتاريخ الخلفاء للسيوطي والنجوم الزاهرة: "أن أبا عبدالرحمن عبدالله بن محمد بن إسحاق الأزدي أحد شيوخ الحديث الشاميين استدعي لمجلس الواثق ليمتحنه في القرآن، فأدخل الشيخ عليه ينوء في الأصفاد. وأرسل الواثق في طلب ابن أبي داود (من المعتزلة) ليدير المناظرة، وقد أراد الشيخ أن يبدأ هو بالسؤال، فقال لابن أبي داود: ما تقول في القرآن؟ قال: مخلوق. فقال: هذا شيء علمه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبوبكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم أجمعين، أم شيء لم يعلموه؟ فقال: شيء لم يعلموه! فقال: سبحان الله! شيء لم يعلمه النبي-صلى الله عليه وسلم- ولا أبوبكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي.. علمته أنت! فخجل ابن أبي داود وطلب من الشيخ أن يقيله من هذه الإجابة.. أعاد عليه السؤال، فقال ابن أبي داود: علموه ولم يدعوا الناس إليه، فقال الشيخ: أفلا وسعك ما وسعهم؟! فبهت الحاضرون. يذكر المؤرخون أن الواثق أمر بإطلاق سراح الشيخ وسقط من عينه ابن أبي داود وأبطل المحنة وكتب للأقطار بذلك".

قرأت مرة أن القدرة على تبسيط الأمور المعقدة في صورة كلمات وعبارات واضحة هي جزء من العبقرية! أو لمَ لا يكون جزءا من نظرة كلية عميقة للأشياء فيها وضوح مشرق فيأتي التعبير عن الفكرة صريحا بسيطا يفهمه الجميع! يقولون لنا عندما نتعلم قراءة أشعة الصدر ونحن نتدرب كأطباء مقيمين: يجب عليك أن ترجع إلى الوراء خطوتين وتنظر للصورة من على بعد حتى تستوعب ما الذي يجري بشكل عام ثم تبدأ في وصف ما تراه.. إني أسترسل هنا لأؤكد على موضوع إعلاء صوت العقل والتفكير في الحكم والنظر إلى الأشياء، وأن هناك كثيرا من دعاة الظلام وقليلا من دعاة النور، وكثيرا من دعاة النظر الضيق الذي يقوم على الكره والبغض وقليلا من يتكلم عن سعة الأفق وحب الخير والسلام.

وصدق من قال إن علينا أن نتعلم أبجديات التفكير العلمي، إن علينا أن نخطو خطوتين إلى الوراء ونقف قليلا لنفكر، ولا أنس حب القراءة، فأقول انظر ماذا تقرأ أقل لك من أنت.