إن مشكلة المتشدد دينيا والمائع دينيا ليست في مخالفتهم للشرع إنما في شرعنة مخالفتهم للشرع!، مشكلتهم أنهم بارعون في إيجاد المخارج الشرعية التي تبيح لهم ارتكاب ما نهى الله عنه، تراهم يلتزمون بتعاليم الدين جدا ولا يخالفون الشرع أبدا حتى وهم يخالفونه صراحة!، تراهم إن لم يجدوا في تعاليم الدين ما يجيز لهم أفعالهم المخالفة للشرع يبتدعون تعاليم شرعية يحتالون بها على الله.

من يقرأ قصة أصحاب السبت لن يجدها تتحدث عن المكر والخداع والحيلة، إنما عن أعلى مراتب المكر والخداع والحيلة، عن تلك المرتبة التي لا يجد فيها المرء بأسا أن يعصي الله، تلك المرتبة التي يريد فيها المرء أن يعصي الله لكنه يخاف أن يعصيه بلا عذر شرعي فيوجد لنفسه العذر الشرعي المناسب حتى يعصي الله وهو مطمئن!، فإن لم يستطع استخراج العذر الشرعي بنفسه سيجد حوله ألف عارف ملم بتعاليم الدين، قادر على استخراج المبررات الشرعية المطلوبة لنزع حالة التردد عن نفسه قبل وبعد وأثناء مخالفته للشرع.

قد أمر الله اليهود ألا يعملوا في يوم السبت، أن يتفرغوا للعبادة والراحة في يوم السبت، إلا أن البحر كان يغري بالصيد لتوفر الأسماك في هذا اليوم دون باقي أيام الأسبوع، واليهود قوم يحبون المال حبا جما، فما الحل؟!، الحل الذي أفتى به فقهاؤهم أن يقوموا بإلقاء شباكهم من يوم الجمعة ثم يسحبونها صبيحة يوم الأحد، وهكذا لن يفوتهم لا الصيد ولا العبادة في يوم السبت، هكذا سيتسنى لهم المعصية في الخفاء والطاعة علنا!، وهكذا تم الأمر وأصدرت الفتوى التي وافقت هوى الصيادين وحافظت على دوران العجلة الاقتصادية في هذه القرية. وكأني بهم حول علمائهم يلتفون في حلقات، يلتمسون منهم المخرج الشرعي الذي يجيز لهم الصيد المنهي عنه بشكل صريح، وكأني بعلمائهم يعقدون المشاورات والمباحثات ثم يصدرون رأيهم الذي أزال عن نفوس السائلين كل بأس، وهكذا تفرغ الناس للعبادة بينما شباكهم تجمع الصيد في البحر (يخادعون الله وهو خادعهم).

(وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون)، ها هم أهل القرية ينقسمون بعد هذا الرأي الشرعي المبني على حيلة، فقسم راح يصطاد مطمئنا إلى آراء الفقهاء، وقسم تنبه إلى خطأ التحايل على الدين بمخرج شرعي فأخذوا يعظون وينصحون وينهون عن المنكر علانية، وقسم ارتأى أن يلتزم الصمت ويكتم إنكاره، ثم ازداد الانقسام، حيث بدأ الذين كتموا إنكارهم يعترضون على من كانوا ينكرون علانية، ومن ذهب للصيد مطمئنا أخذ يردد بأن الدين يسر والأمر سعة، وهكذا نجد أن فقه التحايل يمنع المجتمع عن التقدم عبر إدخاله في دوامة من الانقسامات والجدالات والصراعات الفكرية التي تعرقل الجميع على المدى القريب وتشلهم على كل الأصعدة.

إن فقهاء السبت منهم من يلون الشرع لكي لا يغضب الملتزمين، ومنهم من يلون الشرع لكي لا يغضب بقية السائلين، هذا يختلق مسميات شرعية للعلاقات المحرمة وذلك يخففها بمسمى علاقات عاطفية، هذا يصف جوع الناس وفقرهم بأنه زهد، وذلك يصف تكديس المترفين للأموال بأنه فضل من الله!.

لقد قالها النبي – عليه الصلاة والسلام - "لتتبعن سنن من كان قبلكم"، إن أصحاب السبت قد احتالوا لأسباب اقتصادية، وحيلة فقهاء السبت اليوم غالبها الحفاظ على عجلة دوران الاقتصاد، بحسـب ما يخـدم مصالح التجار والمتنـفعين. وإنـه إن كانـت حيلة أصحاب السبت في يوم السبت، فإن كل أيام المسلمين اليوم سبت.

ختاما.. إن الحديث هنا ليس عن المخارج الشرعية، إنما عن مخالفة ضوابط المخارج الشرعية، عن استغلال بعض الفقهاء للفقه بغرض تطويعه حتى يتوافق مع الواقع، لا تطويع الواقع بما يتوافق مع الشريعة، الحديث هنا عن التوسع في باب المخارج الشرعية لدرجة أجازت للبعض الخروج عن الشريعة والقانون والأخلاق، بل إن بعضهم كـ"داعش ثمرة هذا الفقه" قد خرج عن إطار الإنسانية بالكامل، ولا يزال يعتقد بأنه داخل الإطار الشرعي ولا تثريب عليه!