يعيش اللبنانيون اليوم حالا من القلق الغامض بعد العملية الإسرائيلية في منطقة القنيطرة السورية التي استهدفت مسؤولين في الحرس الثوري الإيراني وحزب الله، اللبنانيون جميعا خبراء في الحروب الإسرائيلية والنزاعات الداخلية لكثرة ما عانوا منها على امتداد سنوات لا تزال تذكرهم بنفسها، إما عبر الحروب الإسرائيلية أو عبر النزاعات الأهلية المسلحة المتجددة دائما.. إن ذلك التكيف مع مثل تلك الأحداث صعب جدا لأن أكلافه كانت غالية على عموم اللبنانيين بالأرواح التي زهقت والدماء التي سالت والبيوت التي دمرت والأهالي التي هجرت..
إن اللبنانيين مقتنعون بأن العملية الإسرائيلية جاءت نتيجة لاستعداد إسرائيل للحرب، وتلك هي وظيفتها منذ أن أنشئت فهي صانعة حروب فقط.. وأن الحرب الأخيرة في لبنان جاءت نتيجة عملية خطف جنود إسرائيليين من قبل حزب الله، فكانت الحرب ردة فعل إسرائيلية واعتبرت فاشلة بالمنظار الإسرائيلي وأنشئت لهذه الغاية لجنة تحقيق في تلك الحرب عرفت بـ"لجنة فينوغراد".. أما ما حدث يوم الأحد بالقنيطرة السورية جاء بمبادرة إسرائيلية مما يعني أنها على استعداد تام للحرب.
باستثناء التهديد الذي أعلنه رئيس الحرس الإيراني بأن إسرائيل ستواجه أعاصير مدمرة ردا على هذه العملية، فلا يوجد أي تصريح لحزب الله على نواياه، رغم أن الإعلاميين المؤيدين للحزب يصرون على أن الرد سيكون كبيرا.. رغم معرفتهم بأن الحرب ستكون كبيرة وأكلافها أيضا، وليس بمقدور لبنان المثقل بالفشل السياسي منذ سنوات، والعاجز اقتصاديا، وغير القادر على انتخاب رئيس للجمهورية، وجنوده مختطفون منذ أشهر طويلة وأهاليهم يفترشون الطرقات، وإمكاناته الأمنية متواضعة خصوصا بعد انتقال اللاجئين السوريين الذين يقدر عددهم حوالي المليون ونصف المليون ومعهم كل مكونات النزاع في سورية.. نظاما ومعارضات.
يتجه فريق آخر يعارض دخول حزب الله إلى سورية، ويعتبر بأن هذا التدخل جلب النزاع السوري إلى لبنان، ويعتقد أيضا بأن فتح جبهة الجولان الآن من لبنان قد يؤدي إلى تجديد الصراع مع إسرائيل وخسارة لبنان لكل الضمانات الدولية، وفي مقدمتها القرار الدولي 1701 الذي جاء بـ13 ألف جندي دولي لضمان الحدود في جنوب لبنان.. بالإضافة إلى ما خلفته الحرب من دمار دفعت الدول الخليجية كامل كلفته مع الدعم المباشر للاقتصاد والنقد اللبناني، وإن تجديد الصراع سيعيد عقارب الزمن إلى الوراء.. أيام اتفاق القاهرة بين الدولة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية، الذي سمح للفلسطينيين بالقتال من لبنان وكان نتيجته احتلال بيروت والجنوب عام 1982.. فإن وقوع العملية الإسرائيلية في القنيطرة السورية وصمت النظام السوري يقول إن هناك اتفاق قاهرة جديدا بين النظام السوري والحرس الإيراني وحزب الله يسمح بتجديد الصراع من الجبهة السورية التي نعمت بالهدوء والسلام منذ القرار 383 لعام 1973.
هناك فريق من اللبنانيين المتابعين للأحداث.. وهم خبراء بمنطق الأحداث.. يعتبر بأن التصعيد في اليمن بتوقيته جاء ليأخذ الكاميرا والإعلام بعيداً عن حدث القنيطرة.. فكان ما كان باليمن وظهور الحوثي بكلمة متلفزة وطويلة ومبرمجة لتعكس انتصارات إيرانية في اليمن.. وهذا ما سيشاهده الإيرانيون عبر وسائل إعلامهم للتخفيف من وقع العملية الإسرائيلية واغتيال أحد أكبر قياديي الحرس الثوري.. ويعتقد هؤلاء الخبراء بأن إيران تفكر بحرب استنزاف طويلة وإطلاق المقاومة من أجل تحرير الجولان بما هو المتبقي الوحيد من احتلالات 5 يونيه 67 والمشمول بالقرار 242.. وهذا ما قد يلاقي قبولا لدى إسرائيل التي قد تجد في ذلك مخرجا للهروب من عملية السلام سنوات طويلة تعزز فيه الاستيطان وتهويد القدس الشريف..
إلا أن هؤلاء الخبراء لا يعتقدون بأن تلك الرغبات ممكنة حتى ولو وجدت لدى الطرفين أي - إسرائيل وإيران - بسبب حال الفوضى التي يعيشها المشرق الآن بعد سقوط الموصل من بين أيدي إيران وأميركا معا.. وظهور داعش وإرهابها.. وتعدد المكونات المسلحة خصوصا بعد وصول شظاياها إلى باريس التي أنتجت واقعا دوليا جديدا تسوده حال من السخط على الذين تسببوا في منع إقفال النزاع السوري عبر التدخل الدولي بعد استخدام الكيماوي، وبالتحديد إدارة أوباما.. مما استدعى زيارة رئيس وزراء بريطانيا إلى أميركا والاتفاق مع أوباما على الدعوة لاجتماع وزراء خارجية دول التحالف الدولي والعربي، وهذا يعني مراجعة لكل سياسات التدخل والأخذ بضرورة العمل البري والمناطق العازلة.. مما يجعل احتمالات النزاع الطويل في الجولان أمرا مستبعدا وإن رد إيران أو حزب الله سيؤدي إلى حرب واحتلال..
يعرف عموم المتابعين أن طبيعة العملية التي استهدفت مسؤولين من إيران وحزب الله كانت عملية مخابراتية بامتياز.. وهذا يعني أن الخرق الإسرائيلي كبير وعلى مستوى أرفع القيادات وتحركاتهم ومعهم المواقع الحساسة والاستراتيجية.. مما يستدعي عملية تغيير لكل المواقع ومخازن الأسلحة ومراكز القيادة.. وهذا أمر بالغ الصعوبة ويحتاج إلى وقت طويل.. أي أن العملية لم تكن قتل المسؤولين بقدر ما كانت الرغبة بإظهار الخرق الاستخباراتي الكبير..
اللبنانيون في هذه الظروف يذهبون لتأمين الاحتياجات الحربية بهدوء وبدون ضجيج.. من مواد غذائية وأدوية ومحروقات.. ويتحدثون عن احتمالات الحرب وتقدير مداها ونتائجها، وهم في قلق شديد، وأن ما يظهرونه من تماسك ما هو إلا عجز عن تغيير الأقدار، وجميعهم يتمنون ألا يرد حزب الله في الجولان كي لا يدمر مرة أخرى لبنان..