بقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره استقبل الشعب السعودي والعربي والإسلامي والمجتمع الدولي نبأ رحيل خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، فكان الدعاء والرحمة من أول ما يجب علينا تجاه ذلك القائدة الفذ الذي سطر في حياته أروع المواقف واتخذ أهم القرارات وأشجعها وأنبلها وأصدقها لشعبه ووطنه وللعرب والمسلمين والعالم.

لقد رحل الملك مخلفا وراءه تركة كبيرة من المحبة والتقدير والاحترام حتى من أولئك الذين اختلف معهم في كيفية معالجة القضايا والموضوعات الإقليمية والدولية.

رحل وهو يحلم بأن يعم السلام والعدل المجتمعات والدول، رحل وهو يأمل في أن يرى الكثير من القضايا وقد انتهت وتم حلها، وعاد السلم والوحدة والتضامن العربي بين الدول والشعوب العربية والإسلامية. رحل وهو يتمنى أن يحقق المزيد من النماء والتطور لبلده ومجتمعه في ظل الإمكانات الاقتصادية التي تحققت في عهده. رحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، بعد أن قدم لشعبه ولأمته وللعالم الكثير من الإنجازات التي سجلها التاريخ في سجل شرفه الحافل بالعطاء والنماء والتطور والتقدم في زمن قياسي يعد سابقة في تاريخ الأمم والشعوب، ولأننا في حالة فقدان كبيرة لشخصية استثنائية على المستوى الوطني والعربي والدولي، لهذا أذكر ببعض القرارات الكبيرة والحكيمة التي سيتذكرها التاريخ ويعود إليها بين فترة وأخرى، فعلى المستوى الوطني يحسب للملك عبدالله اهتمامه بالتعليم العام والعالي وضخ المليارات في ميزانياته لإيمانه بالتعليم الذي راهن عليه في تقدم الشعب وتطوره واستقراره، فتوسع في فتح الجامعات لتقفز من ثمان جامعات إلى ثمان وعشرين جامعة، وفتح أبواب الابتعاث حتى لم يبق بيت إلا وله مبتعث على الأقل في الخارج، ولكن من أهم الإنجازات تأسيس وبناء جامعة الأميرة نورة لرمزيتها، كونها تأتي في مجال اهتمامه بالمرأة وإبراز جهودها ومناصرتها، كما يحسب له معالجة الكثير من قضاياها حتى دخلت مجلس الشورى وستشارك في المجالس البلدية، بالإضافة إلى تمكينها علميا ووظيفيا وفتح جميع المجالات أمامها وفق القيم والأعراف والمرجعيات الوطنية.

وستبقى المرأة مدينة بالفضل له على ما قدمه لها من مكتسبات، وعلى مستوى التنمية أسس رحمه الله، المدن الصناعية والاقتصادية والمالية، وسارع إلى الاهتمام بالشباب وبالمواطنين فأسس الكثير من المشاريع ومنها الإسكان الذي يعد واحدا من أهم القطاعات التي تعالج احتياجات المواطنين، ولن ينسى التاريخ وقفاته الكثيرة من القضايا الوطنية الملحة ومعالجة ملفات الإرهاب والتطرف والفساد والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة.

رحل القائد المتيقظ الذي كان يتحدث بتلقائية ليعبر عما يجول بداخله تجاه الكثير من القضايا والموضوعات وبأبوة للشعب الذي يبادله المحبة والتقدير. صور كثيرة تستعيدها الذاكرة الوطنية والشعبية للمواقف المختلفة التي كان يظهر فيها الراحل وهو يتصرف بعفوية ويخاطب الناس بمحبة ولطف، وهناك الكثير من الصور في مخيلة شعبه وهو يؤدي العرضة وسط الجماهير المسلحة بالأسلحة البيضاء والأسلحة النارية، لقد قدم الراحل لأمته الإسلامية أكبر توسعة في تاريخ الحرمين الشريفين، وسيتذكر شعبه وغيرهم من الشعوب التي استفادت من الإنجازات الاقتصادية الخير الكبير الذي فاض على الجميع نتيجة السياسة التي اتبعها في تقديم أفضل طرق العيش لشعبه الذي تبادل معه الحب الكبير.

وعلى المستوى العربي فقد العرب قائد المواقف الشجاعة والمبادرات الخيرة التي كانت ترمي إلى الاستقرار ودعم السيادة وتعزيز اللحمة الوطنية والتكامل والتعاون العربي، ونبذ الفرقة والصراعات والخلافات التي تتسبب في تشتيت العرب وتمزقهم والطمع في بلدانهم. رحل عبدالله بن عبدالعزيز ليترك فراغا كبيرا نتيجة الثقة الكبيرة والمصداقية العظيمة والحكمة في مواقفه تجاه الكثير من الملفات العربية الساخنة، فلقد حظي الملك الراحل بتقدير واحترام القادة من مختلف دول العالم نتيجة للميزات التي اتصف بها والوضوح في المواقف التي كان يتخذها ولا يحيد عنها، لقد كانت مبادرات الملك عبدالله في السلام على مستوى القضية الفلسطينية، وعلى مستوى القضايا الوطنية في الدول العربية موضع اهتمام من العالم أجمع، وكانت مواقفه واضحة وصريحة لمصلحة الشعوب واستقرار الأوطان وحمايتها من المشاريع الخارجية التي تتربص بها يمنة ويسرة، وخاصة في هذه الفترة التاريخية التي تواجه فيها المجتمعات العربية الكثير من التحديات والمشاريع التي تهدف إلى تمزيق العرب وتفتيتهم طائفيا وعرقيا وقبليا ومذهبيا وفكريا، بالإضافة إلى غير ذلك من التقسيمات التي يخطط من خلالها لضرب الوحدة الوطنية في كل بلد عربي على حدة. وإذا كان الراحل قد قدم الكثير من الإنجازات فإن المسيرة ستستمر بحكمة ورؤية ثاقبة من القيادات الوطنية التي تتوارث تقاليد عريقة في خدمة المواطن والوطن والعرب والمسلمين والعالم. والمملكة عبر تاريخها تثبت أنها دائما قادرة على مواجهة كافة التحديات وتقديم كل الدعم للشعوب العربية والإسلامية وغيرها من الدول التي تحتاج إلى مواقفها الإنسانية المشرفة. ولأن المملكة تحتضن الحرمين الشريفين فهي تتحمل مسؤوليات جسيمة تحتم عليها القيام بدورها في خدمة المسلمين وقضاياهم المختلفة. رحم الله الملك عبدالله وشد من أزر أخوته ومن جاء بعده لإكمال المسيرة، "إنا لله وإنا إليه راجعون".