أسهم كشف عمالة قيادي في حزب الله لإسرائيل أخيراً في إسقاط شعارات ودعاوى "تحصينه ضد الاختراق" التي طالما روج لها، وبات المال السياسي الورقة الأكثر تأثيراً في قواعد الحزب، وقيادييه، بل حتى مؤيديه.

القيادي في الحزب محمد شوربا، الذي بادر من تلقاء نفسه - طائعاً مختاراً – إلى الاتصال بجهاز الموساد الإسرائيلي، تتواتر الأنباء حول منحه الجهاز معلومات مهمة عن أنشطة الحزب وقوته العسكرية، مما شكّل آخر صور العمالة مع من يصفهم الحزب الطائفي بـ"العدو". وتوافرت معلومات حول تمرير شوربا تفاصيل زيارة القيادي عماد مغنية الذي لقي مصرعه في دمشق بتفجير سيارته عام 2008، إلى جهاز المخابرات الإسرائيلي، ومكان إقامته، وتفاصيل تحركاته، مما يعني أن الحزب – بطريقة أو بأخرى – أسهم في تصفية أحد قيادييه.

ويجد النائب السابق عضو كتلة المستقبل مصطفى علوش في حديث له مع "الوطن" أن افتراضات عدم اختراق حزب الله "مكابرات ومبالغات إعلامية" أثبتت بعض الوقائع بطلانها وزيفها، وتوقع أن دخول الحزب في أتون الصراع السوري وانشغاله في الحرب هناك سيفتحان الباب أمام أجهزة استخبارات لتنفيذ اختراقات جديدة.

 




توقفنا في الحلقة السابقة عند توضيح تهاوي دعاوى المقاومة التي يزعم حزب الله تمثيلها، وسقوط حجج من يزعمون الوقوف في وجه إسرائيل، وأنهم هم أوائل الذين يبادرون إلى الارتماء تحت أقدام مخابراتها، طمعاً في الحصول على الدولار. ونواصل كشف المستور داخل حزب الله بعد أن تساقطت أوراق التوت المصطنعة، وبدت سوءاته الكثيرة، وتبددت دعاوى الزيف القائلة إن الحزب محصن ضد الاختراق، وإن الانتماء له "ينبع من الإيمان برسالته"، كما ظل يهرف ساسته، واتضح جلياً للعيان أن الحزب النرجسي ليس إلا مطية لأصحاب الأغراض الدنيوية الزائلة، يحققون عبره مكاسب مادية رخيصة، عبر الخيانة والعمالة وبيع الأسرار، وأنه ليس أكثر من كيان كرتوني، لا يقوى على الوقوف في وجه أقل عاصفة تهب عليه.

انكشاف وجود جواسيس إسرائيليين داخل الحزب الهلامي ليس أمراً جديداً، فسيرة التاريخ تؤكد أنه ليس سوى مطية يحقق بها كثيرون غاياتهم وأهدافهم الدنيوية، سواء كانت حقداً على الأمة ورغبة في إعادة إمبراطوريات عفا عليها التاريخ وتجاوزتها ذاكرته، أو وسيلة لإثارة المذهبيات البغيضة والطائفيات الموهومة لتفتيت عضد الأمة وإضعافها، كما تفعل إيران عبر استخدام الحزب كمخلب قط لتنفيذ أجندتها في المنطقة، أو لتحقيق أهداف مادية زائلة كما فعل شوربا أخيراً، وسبقه إلى ذات الفعل آخرون.

إلا أن الجديد هذه المرة هو أن العميل الإسرائيلي محمد شوربا – كما تظهر تفاصيل انكشاف أمره والقبض عليه - هو الذي بادر من تلقاء نفسه – طائعاً مختاراً – إلى الاتصال بجهاز الاستخبارات الإسرائيلي "الموساد" عارضاً خدماته، مما يرفع أكثر من علامة استفهام حول دواعي إقدامه على ذلك الفعل.

والثابت في الأمر أن شوربا كان صيداً ثميناً للموساد، حيث زوده بمعلومات قيمة عن نشاط الحزب، وعملائه خارج لبنان، وبنية جهازه العسكري، بل إن مصادر موثوقة تؤكد أنه أمد تل أبيب بكامل تفاصيل زيارة مغنية إلى سورية، واسم الفندق الذي سيقيم فيه، وهو ما سهل على عملاء إسرائيل مهمة القضاء على القيادي السابق. كما أسهمت المعلومات التي وفرها في اعتقال اللبناني محمد همدر في بيرو أكتوبر الماضي قبل أن ينفذ العملية الانتحارية التي كان يعد لها.

ويؤكد مراقبون أن شوربا لن يكون هو العميل الأخير لإسرائيل داخل الحزب المذهبي، مشيرين إلى أن انغماس الحزب في الأزمة السورية ومشاركته في القتال إلى جانب نظام الرئيس بشار الأسد أفقدا الحزب كثيرا من كوادره العسكرية والفكرية، مما اضطر قيادة الحزب إلى الاستعانة بعناصر أخرى قد تكون غير مدربة أو لم تكتسب الخبرة الكافية التي تعينها على أداء واجباتها. ويخلصون إلى تأكيد أن مثل هذه البيئة ترفع من احتمالات زرع الجواسيس والعيون، أو تجنيد عملاء جدد. مما يشير بدوره إلى أن خسائر حزب الله جراء تورطه في النزاع السوري لن تقتصر على العناصر البشرية أو المادية فقط، بل ستمتد آثارها إلى جوانب أخرى قد تضع نهاية للحزب. ونواصل في هذه الحلقة ما انقطع من آراء ضيوف "الوطن".

الجشع والانتقام والابتزاز

ويشير القيادي في تيار "المستقبل" النائب السابق مصطفى علوش إلى احتمال وجود أسباب أخرى للعمالة داخل الحزب المذهبي، ويقول "هذه ليست المرة الأولى التي يكتشف فيها عملاء لإسرائيل ضمن صفوف حزب الله، فالعدد الأكبر من العملاء الذين قبض عليهم على مدى السنوات الماضية كانوا من هذا الحزب، وإن كان الهدف الغالب هو الكسب المادي على الرغم من عدم حاجة بعض العملاء له، فقد يكون الجشع سبباً، وقد تكون الاعتراضات الداخلية على نفاق سياسة حزب الله سبباً آخر، وقد تكون هناك رغبة عند البعض في الانتقام من الحزب أو قياداته، ولكن القضية تحتاج للتدقيق، مع العلم بأن إمكانية معرفة الأسباب الآن قد تكون مستحيلة، لأن الحزب هو الذي يتولى التحقيق، وهو الذي سيتولى إصدار الأحكام وتنفيذها، دون العودة إلى الدولة.

ويبدي علوش استغرابه من إقدام القيادي في الحزب محمد شوربا على المبادرة إلى الاتصال بالموساد وعرض عمالته عليه، ويستدرك أنه ربما كانت هناك أسباب أخرى غير معلومة في الوقت الراهن، ويضيف "أعتقد أنه أمر مستغرب، ولكن ذلك قد يكون مرده إلى رد فعل من قبل العميل المذكور على قضايا داخلية في حزبه، أو قد تكون المخابرات الإسرائيلية قامت بابتزازه بشكل من الأشكال".

ثمن التدخل في سورية

ويتوقع علوش أن يتم اختراق الحزب مجدداً بواسطة عملاء آخرين، لاسيما بعد انغماسه في الأزمة السورية، ويقول "لا شك أن افتراضات عدم اختراق حزب الله هي مجرد مكابرات أو مبالغات إعلامية أثبتت الوقائع بطلانها، والمؤكد أن دخول الحزب إلى سورية وانشغاله في الحرب هناك، واضطراره إلى تجنيد عناصر جديدة غير مجربة ستفتح الباب أمام مخابرات عديدة للمزيد من الاختراقات. ومن الممكن اعتبار معارضة سياسة حزب الله أحد أسباب العمالة مع الأسباب التقليدية الأخرى للعمالة، ولكن المؤكد أن أوهام الحزب العقائدي الذي لا يخترق باتت من الماضي، وقد يكون مقابل كل عميل يكتشف عشرات آخرون لم يتم اكتشافهم".

ويختم علوش قائلاً "مواجهة إسرائيل هي الواجهة التي دخلت بها إيران إلى الساحة اللبنانية والعربية، ولكن الوقائع تؤكد أن الهدف هو فقط دعائي، وما تريده إيران من حزب الله هو خدمة أهدافها فقط بتوسيع سلطة الولي الفقيه، وتبرير سلاحه بمواجهة إسرائيل، مع العلم بأن هذه المواجهة أصبحت من الماضي منذ سنة 2006، حيث انتقل حزب الله إلى مهمته الأساسية في لبنان وسورية والعراق ومناطق أخرى في العالم".

دوافع العمالة وأسبابها

من جانبه يؤكد القيادي في جماعة أنصار السنة المحمدية في السودان الدكتور الصافي علي محمد أن حزب الله اعتاد كشف وجود عملاء لإسرائيل داخله، ولكنه كان يتكتم على إعلان ذلك، تمشياً مع سياسة التعتيم والسرية البالغة التي ظل ينتهجها. وقال "تحدثت مصادر عديدة في السابق عن انكشاف أمر وجود جواسيس داخل الحزب، لكن القيادة ظلت تتكتم على ذلك، وترفض الاعتراف بوجود عمالة، لكن يبدو أن الأمور قد وصلت أخيراً إلى مستوى لا يمكن إخفاؤه، لذلك بدأت الأخبار ترشح، لاسيما في زمن العولمة والانفجار التقني الذي يستحيل معه حجب المعلومات والحقائق".

ويؤكد محمد أن كثيراً من أتباع الحزب المذهبي يبادرون إلى الاتصال بالموساد لعرض خدماتهم وعمالتهم، ويقول "اللهث وراء الدولار وتحقيق مكاسب دنيوية، هما الهاجسان الأكبر لعناصر الحزب. والمتابع للإعلام الإسرائيلي يستطيع أن يقرأ ذلك. أما في حالة محمد شوربا فيبدو أن الانتقام من منافسين داخل الحزب أو الرغبة في تصفيتهم دفعاه إلى عرض خدماته على الموساد، ولا ينبغي أن نغفل أن اعترافه شخصياً بأنه هو الذي بادر إلى الاتصال بالعدو الإسرائيلي يمكن أن تكون له أسباب أخرى، فقد يكون تعرض للابتزاز ولا يريد أن يكشف الجزئية التي ابتزته بها عناصر الموساد، وربما يكون هناك آخرون في شبكة التجسس التي كان يديرها ولا يريد حتى مع انكشاف أمره أن يكشف عن عناصرها. وعموماً لا أتصور أن يكشف الحزب عن نتائج التحقيقات التي من المؤكد أنها جارية الآن مع شوربا، فهو حزب يفتقد للشفافية، ولم يعرف سبيل الصراحة والوضوح حتى مع قاعدته وأنصاره".

الحقد الصفوي على العرب

وبدوره يتهكم محمد على مزاعم حزب الله باستحالة اختراقه من جانب كيانات معادية، ويقول "الحزب نشأ في الأساس على مجموعة من الأحقاد التي تموج في صدور ساسة إيران على السنة العرب، والشعور بالغيظ من التقدم والتطور الذي تشهده دول الخليج المجاورة لها، لذلك يسعى النظام الإيراني إلى إعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية التي غربت شمسها إلى الأبد، لذلك أدركت أنه لا سبيل أمامها لتحقيق أهدافها إلا عبر زرع كيانات تحقق أهدافها داخل دول الجوار، فاستغلت مليشيا حزب الله في لبنان، ودعمت حركة الحوثيين في اليمن وأمدتها بالسلاح والعتاد، كما أنشأت العديد من الجماعات المسلحة داخل العراق، لاسيما بعد الغزو العراقي وانفراط عقد الأمن في بغداد. لذلك فإن بيئة من هذا النوع يسهل اختراقها، لأنها لم تقم أساساً على مبادئ صحيحة وقواعد يمكن الإيمان بها".

ويمضي قائلاً "لا أستبعد أن يتفكك الحزب نهائياً، ويفقد قاعدته إلى الأبد، فالتململ الداخلي على أشده، خصوصاً بعد الخسائر الكبيرة في أرواح مقاتليه الذين انزلقوا إلى المستنقع السوري، فكثير من الأسر فقدت من يعيلونها، وابتليت بفقد أبنائها، وأدركت بعد فوات الأوان أن أفرادها كانوا وقوداً لحرب خاسرة، لا مصلحة لهم فيها. لذلك فإن الأجواء مرشحة لثورة داخل قواعد الحزب، قد تعصف به من الأساس، وتحوله إلى كيانات صغيرة متقاتلة في ما بينها، وهذا مصير مثل هذه الكيانات التي لا تنشأ لأهداف سامية، ولا تراعي مصالح دولها القومية، وترضى بأن تكون مخلب قط ينفذ المهام التي تطلب منه، دون أن يضعها على ميزان الوطنية".

ويرفض محمد بصورة حاسمة ادعاءات المقاومة التي ما زالت تروج لها قيادة حزب الله، ويقول "أي مقاومة تلك التي يمثلها حزب الله، وما هي الأهداف النبيلة التي يمكن أن يجنيها من وراء توجيه سلاحه نحو صدور أبناء الشعب السوري الأعزل؟ الجميع بات يدرك – وفي مقدمتهم قواعد الحزب نفسها – أن الأهداف التي يسعى الحزب إلى تنفيذها هي أهداف مذهبية طائفية تصب في مصلحة طهران فقط، وتتعارض في ذات الوقت مع دعوات العقلاء من أبناء الأمة العربية الذين نادوا ولا يزالون بضرورة توحيد الجهود، والخروج من دائرة الصراعات الداخلية التي لم تقدم لنا سوى التراجع والخذلان".

الحرب الاستباقية

وفي ذات السياق يؤكد الخبير الاستراتيجي المصري اللواء متقاعد حسام سويلم أن زرع جواسيس إسرائيليين داخل حزب الله كان أحد أهم الملفات التي أولاها الموساد اهتمامه، لاسيما بعد انتهاء حرب عام 2006، مشيراً إلى أنه نجح بدرجة كبيرة في ذلك. وقال في تصريحات لـ"الوطن" "الموساد ركز عقب انتهاء حربه مع حزب الله على زرع جواسيس داخل بنية الحزب، بهدف جمع المعلومات، ومواجهة مساعي الحزب للحصول على أسلحة حديثة، وهو ما يسمى بأسلوب "الحرب الاستباقية"، فالموساد يريد منع وصول أسلحة متقدمة للحزب بكل الطرق. كما كان يسعى إلى تصفية بعض العناصر التي يشعر أنها تمثل خطراً عليه، وما من سبيل لتحقيق كل هذه الأهداف إلا عن طريق وجود عيون داخل قيادة الحزب تستطيع توفير المعلومة المناسبة عن الأفكار والخطط. وأعتقد أن الموساد نجح في مساعيه بدرجة كبيرة".

ويسخر سويلم من إصرار حزب الله على ادعاء قوة تحصيناته وعدم السماح بحدوث اختراقات أمنية أو زرع جواسيس، لافتاً إلى أن الحزب نفسه أعلن في مرات عديدة اكتشاف وجود جواسيس إسرائيليين داخله، ويقول "كيف يقول الحزب إنه اكتشف وجود هؤلاء العملاء في صفوفه، ويعود ثانية ليزعم أن بيئته محصنة ضد الاختراق؟ وإذا سلمنا – جدلاً – بصعوبة اختراق الحزب، فكيف قتل عماد مغنية؟ ومن أين حصل الموساد على كنز المعلومات الثمين الذي أتاح له تنفيذ عملية اغتيال مغنية داخل دمشق، وهروب كل عناصره بعد تنفيذ العملية في وقت قياسي؟ كل هذا النجاح لا يمكن لأي جهاز استخبارات تنفيذه إلا إذا حصل على معلومات تشمل تفاصيل التفاصيل الصغيرة، ومثل هذه المعلومات – كما هو معلوم في عالم المخابرات – لا يمكن أن يتوافر إلا من خلال عميل داخلي ملم بكل التفاصيل".

تناقضات نظام الملالي

ومضى سويلم بالقول "إسرائيل لم تنجح في زرع عناصرها داخل حزب الله فقط، بل زرعتهم أيضاً داخل إيران التي ترعى حزب الله وتلهمه السياسات وتمده بالأوامر، فكثير من العلماء النوويين الإيرانيين قتلوا بطرق مشابهة لاغتيال مغنية. وليس بالضرورة أن يكون العميل شيعياً حتى يصل إلى مراكز متقدمة داخل الحزب المذهبي، فيكفي أن يتظاهر بذلك ويصل إلى مراكز قيادية".

ويخلص سويلم إلى القول إن إصرار حزب الله على أنه يمثل خط الدفاع الأول عن الأمة، والمتحمل لعبء المقاومة ما هو إلا نوع من "البروباغاندا السياسية"، مشيراً إلى وجود تعاون بين إيران نفسها وإسرائيل، ويقول "كيف تزعم إيران أنها تقف في وجه الأطماع الإسرائيلية، بينما تتعامل معه تجارياً في ذات الوقت؟ فطهران التي تصف إسرائيل بأنها "الشيطان الأكبر" تتعامل اقتصادياً مع هذا الشيطان، وتبيع له نفطها عن طريق وسطاء هولنديين".