كاد البعض يشك في أن هناك "حملة صحفية" لتشويه صورة الأجهزة الحكومية في المدينة المنورة، أو أن هناك "توجيهاً" صحفياً لكشف المستور في بعض القطاعات التي ما كان أحد يستطيع الاقتراب منها أو التلميح بفسادها.. وهذا الشك الذي تسرب إلى ظن البعض ناشئ عن الأخبار والتقارير المتلاحقة في الصحف طوال الأسبوع قبل الماضي، فقد بدا وكأنه أسبوع غير مسبوق لفضح مظاهر الفساد في مراكز قضائية وخدمية وتربوية في المدينة، حيث تسلطت الأضواء على ما يجري في فرع وزارة الحج من مخالفات مالية ومحسوبيات وسوء استغلال للوظيفة وهدر المال العام أو توجيهه وصرفه في غير ما رصد له أو قصد به (لا أريد أن أتهم أحدا بالخيانة قبل التدقيق وصدور ما يؤكدها).. وفي الأسبوع نفسه "أمسكت" الصحف ببداية الخيط الموصل للمخفي من خبايا في أروقة الجهاز القضائي، وما لبث المغطى أن انكشف، فإذا أحد القضاة ومساعدوه متورطون في ملابسات اختلاس عشرات الملايين، وإصدار صكوك للعديد من الأراضي بطرق ملتوية.. وتوالت سلسلة الفضائح لتكشف تضييع أداء الواجب وفساد الذمم لدى بعض من يُظن أنه أهل لحفظ أموال الناس وأداء الأمانة العظمى الموكلة إليه.. وقبل فترة طالعتنا الصحف بقضية المؤهلات العليا التي حصل عليها بعض العاملين في الجهاز التربوي بصورة لا تتفق وحياة ضمائر أهل التربية وما يجب أن يكون عليه سلوك من يتولى زرع الأخلاق والقيم في قلوب وعقول الناشئة.
وهذا الشك الذي تسرب إلى ظن البعض سببه حبهم الكبير لطيبة الطيبة وتقديرهم لأخلاق أهلها والمنتسبين إليها والمتأثرين بقيمها الفاضلة واعتقادهم أن العاملين فيها – رغم أنهم بشر يعتريهم ما يعتري أخلاق البشر جميعاً – يفترض أن يكونوا أقرب الناس إلى تمثل قيم الدين والتخلق بآدابه والتمسك بشريعته واتباع أوامرها والامتناع عن نواهيها، فهم في الجوار الكريم ومكبرات الحرم تنقل إلى أسماعهم – صباح مساء – المواعظ وتذكرهم بالحلال والحرام، وهم يرون أمام أعينهم "قوافل" الذاهبين إلى تربة البقيع فيرجع الأهل والأحباب والأصدقاء وحاشية المنتفعين ولا يبقى مع الذاهبين إلا العمل الصالح وذرية زرعوا في ضمائرهم مخافة الله لعلهم يدعون لهم فينتفعون بدعائهم. لكن يبدو أن تغيراً جوهرياً يحدث في قيم المجتمع وأن أساليب التربية ومناهج التوعية والوعظ لا تؤثر في مسلك الأفراد رغم كثافتها وتواليها.
وإذا تأملنا "الواقع" المعاش ونظرنا إلى "خريطة" العلاقة بين الناس وطبيعة تعاملاتهم وأساليب وطرق تبادل المنافع والمصالح تنكشف حقائق صادمة تنذر بأن هناك "ثقافة" تنتشر وتتسع دائرتها في أروقة الأجهزة المتصلة بخدمة الجمهور ومحورها الفساد المالي. وهي ثقافة تهدد حياة الناس وتحرمهم من حقوقهم وتدفعهم قسرا إلى الوقوع في هذا المستنقع.. ورغم أن الفساد لا تخلو منه المجتمعات البشرية فهو الضد الذي يتميز به الخير وأهله عن سواهم وتسمو به الأمانة ويرتفع أهلها عن نقيضهم المنحدر في الغش والكذب. لكن "ثقافة الفساد" كانت في الماضي غير البعيد محدودة في دوائر ضيقة.. وكان المنغمسون فيها يتوارون عن أعين الناس ويخافون على سمعتهم – حتى وهم يخوضون في الوحل – ويحرصون على سمعة أسرهم لأن المنكشف منهم تلاحقه ألسنة الناس ويشعر بالعزلة .. لكن للأسف أصبحت ثقافة أكل المال العام من الاتساع بحيث لا تستنكر ولا تواجه بما يستحقه من رفض المجتمع وعقاب النظام، بل بات يراها البعض السمة الغالبة، وأن الذين لا يشاركون فيها لا يعيشون الواقع ولا يتعاملون مع ما يجري في الحياة من حولهم .. وبلغ الأمر بالفاسدين أن يجاهروا بفسادهم بحجة أن "الجميع" منغمس في هذا التيار، وإن بدرجات متفاوتة، وأن الذي لا يشترك في "الاستفادة" من المال العام هو عاجز أو عديم الحيلة. وهذه الثقافة الشوهاء تستدعي سؤالاً ينتصب في وجه الجميع: ما العمل لمواجهة ثقافة الفساد وضياع المال العام؟.
سؤال، برغم قلة حروفه، وبساطة طرحه إلا أنه يحمل في طياته مشكلة معقدة، عناصرها متعددة وبواعثها مختلفة، ففيها من العجز الإداري شيء، وفيها من ضعف الرقابة شيء، وفيها من نقص التربية وتراجع مرتبة الأمانة في سلم القيم أشياء. وقضية بهذا "التعقيد" لا تدعي هذه السطور قدرتها على تقديم "الوصفة الناجعة" لها، وكل ما يمكن أن تطمح إليه، في هذا الحيز المحدود، هو أن ترفع إصبعا مع الذين سبق أن أشاروا إلى مواطن الخلل وحذروا من اتساع الرقعة. المسألة – كما قلنا – فيها الخلل الإداري، وفيها قصور الرقابة، ووراءها تراجع حضور التشريع في حياة الناس، كما تشير إلى عدم فاعلية التربية في تعديل السلوك، وهذا يعني أن العلاج متنوع ومتدرج، وأن التدرج يحسن أن تراعى فيه سرعة الأثر والقدرة على التفعيل وإمكانية الضبط، ومن هنا يبدو أن أولى الخطوات على طريق "إصلاح الفساد" الإداري والمالي تبدأ بالقانون وقوة التنفيذ . ولن يؤدي القانون دوره الفاعل المؤثر إلا بالتطبيق الشامل على الجميع بحيث تسود "ثقافة المساواة" تحـت مظـلة النظام، فلا تترك أي جهة لها علاقة بحقوق الناس إلا وأخضعت للضبط الإداري والرقابة الشفافة والعقاب المنصف.."المساواة" تحت مظلة القانون هي الضمان الأساسي لفـاعلية أي تحرك في اتجاه الوقوف في وجه إهدار المال العام وأكله بالطرق غير المشروعة، فهذا المعيار يوفر القدوة من الكبار أمام أعين الصغار، ولا يترك حجة لفاسد أن يقول انظروا ما يفعلون .. هذه الأولوية لتطبيق النظام بصرامة وكفاءة ضد الفاسدين ستساعد المجتمع على إيقاف تدفق المياه الفاسدة إلى مشاربنا، وتسد الهوات التي تبتلع خيرات الوطن، وتحول دون تسرب المال العام إلى غير وجهته.