أعلنت شركة سما للطيران عن توقف رحلاتها تماماً بسبب الخسائر الكبيرة التي تكبدتها في فترة تشغيلها مما لم يمكنها من الاستمرار. هذا يعني عملياً إشهار الإفلاس. وقد سبق أن تحدثنا عن التحديات التي تواجه هذه الصناعة في المملكة، ومن أهمها أسعار الوقود المبالغ بها ارتفاعاً والتي تتجاوز نظيراتها حتى في مطاري دمشق والخرطوم. وهناك بالطبع أسعار الخدمات اللوجستية والمبالغ بها أيضاً والتي تطبقها هيئة الطيران المدني وبتفضيل فاضح بين هذه الرسوم وبين ما تقوم به مع الناقل الوطني الخطوط السعودية. الغريب والمذهل أنني لم أسمع بعد هذا الإعلان أي رد فعل تجاه هذا الخبر غير المبشر بالخير. وأنا هنا لا أشير فقط إلى الخسائر التي تكبدها ملاك هذه الشركة وإن كانت سيئة ولا نتمناها لأي مستثمر سعودي، لكنني أقصد تحديداً هذا الصمت على وأد الصناعة برمتها داخل المملكة.

فهل يعني هذا أنَّ موقف هيئة الطيران المدني وهي الهيئة المسؤولة عن تنظيم ووضع الرقابة والتشريعات على هذه الصناعة وقبل كل هذا تشجيعها، أقول: هل يعني هذا أننا في المملكة ورسمياً لم نأبه بشيء من وراء هذا الفشل؟ هل يعني هذا أننا نقول لهذه الصناعة: "مع السلامة"، وهي الصناعة الرائجة والكبيرة في كل الدول الكبرى مساحة وسكاناً؟ ما الذي يحدث يا إخوان؟ مع مثل هذه الردود للأفعال كيف نصنع البيئة الاستثماريّة القادرة على خلق فرص العمل سواء في الطيران أو غيره؟ بالأمس القريب يحدثني صديق أثق به يقول بأن ما يربو على ألف خريج جديد من جامعات أمريكا وأوروبا وهم الذين للتو عادوا بشهاداتهم ضمن الدفعة الأولى من برنامج خادم الحرمين للابتعاث قد انضموا إلى طوابير العاطلين. وقد أسماها بطالة VIP بمعنى أن هؤلاء لا يُفترض أن يكونوا عاطلين نسبة إلى مستويات التعليم والمهارات التي حصلوا عليها في الغرب لكنهم بالفعل أصبحوا كذلك. أعود وأكرّر ما سبق أن ذكرته في عدة مواضيع سابقة أنّ سبب البطالة الأهم بنظري هو ندرة عدد الاستثمارات المتوافرة في المملكة والقادرة على استقطاب المتخرجين. ندرة الاستثمارات ناتجة من تردد المستثمرين للدخول في المشاريع الخدمية الكبرى التي تولد مثل هذه الوظائف المأمولة. أما سبب هذا التردد فهو غياب المرونة وغياب الهمة والقدرة على تحديث التشريعات بواسطة الدولة كما هي الحال في صناعة الطيران. السؤال المرعب هنا ونحن على هذه الحال، ما الذي سنفعله عندما يعود مئة ألف خريج من أمريكا وأوروبا بعد سنتين أو ثلاث سنوات؟

كنت أتوقع حقيقة أن تقوم الدنيا ولا تقعد مع إعلان إفلاس "طيران سما". كنت أتوقع أن تكتب البحوث وتعقد الندوات من قبل المختصين لتناول هذه القضية وتوضيح الأسباب. لكن كما يبدو -والله أعلم- أنَّ فشل هذه الصناعة المهمة لا يعنينا في المملكة، وكأن الذي أفلس بقالة أو مطعم شاورما. إنه لشيء محزن بالفعل. ليس لأن الشركة خسرت كما قلت، بل لأننا لم نكترث لمعرفة الأسباب ومحاولة الاستفادة منها لمنع تكرارها. صناعة الطيران عالمياً تعتبر ركيزة مهمة في خلق الوظائف. لست هنا بحاجة إلى وضع المقارنات بينها وبين بعض الاستثمارات الأخرى. يكفي أنها صناعة تعتمد كثيراً على عدد الموظفين ومستويات الأداء والتألق سواء في مستويات الخدمة الجوية أو تلك التي على الأرض. هذه الصناعة تزخر بالعديد من الوظائف بدءا من الطيارين والملاحين وموظفي المطارات وقطاعات الصيانة والمراقبة الجوية وانتهاء بالحجز والترويج للسياحة والتشجيع على السفر. وكل نقطة هنا تتشعب إلى نقاط أخرى متعددة ومتصلة كالتدريب وتنمية المهارات وإقامة ورش العمل المتخصصة. فإذا توقف الطلب أو تدنى فإن التأثير سيأتي عكسياً على كل تلك الأنشطة.

من جهة أخرى قرأت مؤخراً بأن شركات الطيران في دول الخليج تقدمت بطلب السماح لها في نقل الركاب بين المدن السعودية والذي تسيطر عليه "السعودية" بشكل مطلق. لا أعلم هل ستتم دراسة هذا الطلب أم لا. الذي أعرفه أننا بحاجة إلى فتح المنافسة والسماح لأي خطوط طيران شقيقة بنقل الركاب السعوديين من وإلى مطارات المملكة المتعددة. أقول ذلك لأنني مدرك للتحديات التي تواجهها "السعودية" للوفاء بخدمات مدن المملكة. التنقل اليوم بين الرياض وجدة والدمام أصبح حلما مرعبا، لأن الحجز لا يتوافر في غالب الأيام. التنقل بشكل عام يعتبر موضوعا حيويا في التنمية البشرية والاقتصادية، ولا يمكن أن نضع هذه القضية في الأدراج. ثم إن هذه المنافسة ستصنع من خطوطنا الوطنية شركة أفضل لأنها ستضطر إلى التطوير للحاق بمنافسيها. كل ما علينا أن نقوم به اليوم للتعرف على هذا القصور وعمق المأساة هو الاطلاع على عدد المسافرين السعوديين الذين يختارون دبي أو الدوحة للانطلاق إلى أهدافهم في أوروبا أو الشرق أو الولايات المتحدة. فمن الرياض إلى الولايات المتحدة على سبيل المثال، لا يوجد إلا رحلتان أو ثلاث رحلات في الأسبوع، بينما من مطار دبي وحده يوجد أكثر من 5 رحلات مباشرة يومياً إلى خمس أو ست مدن أمريكية. أين الخلل وكيف حدث وماذا سنفعل بصدده؟ أترك هذه الأسئلة لمن يفترض أن تسترعي اهتمامه في سبيل تحقيق التنمية الكبرى المنشودة في البلاد.