يحدث هذه الأيام أن تجد شيخا ملتزما بسنة النبي –عليه الصلاة والسلام- من لحية وسواك وثوب فوق الكعبين ثم يلتقط لنفسه صورة مع حذاء لإلجام مخالفيه وإسكاتهم!

يحدث هذه الأيام أن تجد مثقفا عتيقا مُبتلى بسوداوية جعلته ينظر إلى الجميع بلا استثناء أنهم دواعش مستترة تتحين الفرصة للانقضاض!

يحدث أيضا أن قاموس لغة الحوار لدينا بات مزدحما بكلمات العهر والهجاء والشتيمة!

المأساة ليست في استبدالنا للغة الحوار الهادئة الراقية بلغة مثقوبة. المأساة ليست في امتلاء فضائنا الثقافي بالمهاترات، إنما المأساة أن المهاترات اليوم يقودها رَكْب من النخب الدينية والثقافية!، أن الذين ينشرون "الهرج والمرج" بيننا هم نخبة من حملة الشهادات العليا في شتى المجالات الدينية والدنيوية. هذه هي المأساة. هذا هو الفرق بيننا وبين تلك المجتمعات التي تكون فيها المهاترات حِكرا على السفهاء والمعاتيه.

الشتم والقذف والاستهزاء والترهيب أساليب موجودة في كل المجتمعات بلا استثناء. غير أن المجتمعات التي يحترم أفرادها لغة الحوار تركت صِغارها يتشاتمون ويتقاذفون بالطوب والحجارة، بينما في المجتمعات التي لا يحترم أفرادها لغة الحوار نجد الكِبار هم من يبدؤون بإلقاء الحجارة الكلامية! هذا هو الفرق بيننا وبينهم، الفرق ليس في أنهم لا يشتمون إنما في أنهم لا يصفقون لمن يشتم، بينما من يشتم هنا ويستهزئ بمخالفيه يحظى بالتصفيق ويُنظر إليه أنه البطل الذي لا يُهادِن في الحق!

إن السبب الرئيس في هذا الانحدار هو أن المؤسسات والجهات المسؤولة عن الثقافة راحت تهتم بكل شيء إلا بما هي مسؤولة عنه!

أنديتنا الأدبية منذ أن بدأت وهي لا تفتح أبوابها إلا للنُخب الذين هجروها مؤخرا حتى غدت أطلالا!

أنديتنا الرياضية تجاهلت كل دور لها وراحت تركض خلف الإعلام. هذا الإعلام الذي بات يرى الثقافة تجارة كاسدة لا تضمن له أموال الرُعاة والمعلنين.

جامعاتنا أغلقت مسارحها ولم يعد يهمها عقد ندوة ثقافية أو تبني حوار هادف. فَهْمُها منصب في ضخ أكبر عدد من الخريجين. هذه الوزارة التي يتكون اسمها من مقطعين "ثقافة وإعلام" يكاد ينحصر إنتاجها الثقافي في قناة يتيمة محذوفة من جميع الرسيفرات!

قد يقول قائل إنني أبالغ، حسنا أنا فعلا أبالغ، فالمؤسسات والجهات الثقافية لها إسهامات فعلية لكن ليس على أرض الواقع ولا في الواقع الافتراضي!

إسهاماتها تشبه تلك الآثار المحفوظة في متاحفنا التي لا تفتح أبوابها إلا لوفد رسمي أو لطلبة المدارس حين كانت المدارس تقوم بتنظيم رحلات طلابية!

نعم هنالك إسهامات، هنالك ميزانيات تُصرف لهذه الجهات والمؤسسات، هنالك مسؤولون ومديرون وموظفون ومبان فخمة ومواقف للسيارات، وربما بسبب توافر كل شيء لهذه المؤسسات الثقافية فقد اعتادت أن يتوافر لديها كل شيء.

لذا فهي تطمع اليوم أن يُوفِر لها المجتمع بيئة ثقافية متحضرة وراقية! فإن كان المجتمع قادرا على توفير هذه البيئة من تلقاء نفسه فما حاجته إذًا لكل هذه المؤسسات؟!

وليس من باب الدعاية ولكن من باب الإطراء والثناء، كان لِزاما أن أسلط الضوء بتواضع على "ديوانية الدغيلبي"، هذه الديوانية التي تقوم وبمجهود شخصي وإمكانات متواضعة بعمل استضافات دورية لقامات علمية وثقافية وفكرية.

إننا في حاجة لتطبيق فكرة هذه الديوانية البسيطة والمثرية، ليس المطلوب أن تحول المؤسسات الثقافية مبانيها لدواوين ومجالس، لكن الحديث عن فكرة الديوانية أن تكون هنالك لقاءات دورية للقامات الفكرية والعلمية التي يزخر بها الوطن. أن تقوم الجامعات والأندية الأدبية والرياضية بعقد الندوات والمحاضرات الفكرية والفلسفية. أن يتبنى أحدهم عرض حوار مطول بين شخصين متناقضين يتناقشان إلى أن يحتد بينهما النقاش لكن بأسلوب راق متحضر، على أن يتبنى الإعلام ويسلط الضوء على مثل هذه المشاريع التي تُكسِب الثقافة صفة التحضر والرقي.

حين كانت الجامعات والأندية تتبنى مثل هذه المفاهيم، وحين كان الإعلام يسلط الضوء على هذه النشاطات، وحين كانت الدواوين والجلسات الثقافية تتم بمجهود مؤسساتي، كانت لغة الحوار راقية ومتحضرة.

في ذلك الوقت، حين كان الإعلام يعرض لقاءات لقامات فكرية وثقافية رفيعة كان المجتمع يتحدث بشكل أكثر تحضرا.

إنني أختلف مع من يردد أن كل ما في الأمر أن مواقع التواصل اليوم أخرجت إلى العلن ما كان ولا يزال يدور على الأرصفة. أختلف لأنني أرى الخلل في المؤسسات الثقافية التي انسحبت، وبانسحابها اتسعت الرقعة كثيرا حتى انزلق رَكب من النخب.

انسحاب المؤسسات الثقافية عن أداء دورها في المشهد الثقافي مهد لاستبدال الحناجر في كل حوار بالخناجر، وانزلاق الكبار إلى هذا القاع شرعن للسفاهة وصور للصغار أنه لا بأس بالشتم والاستهزاء إحقاقا للحق! لم تعد المشكلة اليوم أن الكبار لا يجدون من يقول لهم إن الحوار هكذا عيب. المشكلة أن من يقول لهم إن الحوار بهذا الأسلوب عيب أصبح يُنظر إليه أنه هو من يرتكب فحشا في حق الكبار!