قبل أكثر من عقد من الزمن، وعندما أنشئ مركز وطني للحوار لم يدر في خلد أحدنا أن يعمل العصر الرقمي في المجتمعات ما يعمله من تأثير كبير في صياغة الفكر لدى الناس والتأثير عليهم بطريقة لا يمكن التحكم بها. ولم يدر بخلدنا عندئذ أن يكون لأطراف ضعيفة الآليات التي تستطيع بها هز الحكومات والشركات والمنتجين كافة بالطريقة التي نراها الآن، التي أعطت هؤلاء الضعفاء آليات ضخت في دمائهم القوة التي بات يُحسب لها كل حساب.

رأينا كيف أن تلك القوى الضعيفة تمكنت بواسطة آليات العصر من أن تضع أناسا وترفع آخرين.. وتقوض حكومات وترفع أخرى.. كما لم يدر في خلدنا ما تفعله وسائط التواصل الاجتماعي -أو قل: الإعلام الجديد- الآن من استحواذ على أوقات طويلة على حساب وسائل الإعلام التقليدية، التي عادة ما تكون مملوكة لجهات رسمية تعبر عن سياساتها وأهدافها وتطلعاتها أو لشركات خاصة ذات أجندات سياسية أو اقتصادية أو ثقافية محددة تسعى لخدمتها، الأمر الذي يشكك في مصداقيتها في كثير من الأخبار والتحليلات، ما صرف الناس عنها ليتوجهوا إلى الإعلام الجديد بمزاج سلبي يكاد يكون انتقاميا، حيث ينتشر النقد اللاذع والطعن وازدراء الإنجازات والتركيز على الأخطاء والإخفاقات بشكل متطرف يسارا، كرد فعل على وسائل الإعلام التقليدية ذات السطوة الكبيرة سابقا المتطرفة يمينا بشكل كبير فيما مضى، ومِن مَن؟ من أفراد عاديين.. حيث أصبح الجميع يبث ما يريد وإلى من يريد دون أدنى رقابة أو تحفظ.

ومن هنا أصبح لوسائل التواصل الاجتماعي منصات تفاعل كبيرة يتواصل من خلالها الجميع محليا ودوليا ما سهَّل وجود قواعد حوارية دون مرجعيات ودون مبادئ ضمن مجاميع متعددة يجمعها ناظم فكري أو عُمري أو مهني أو هواية أو غير ذلك. وبطبيعة الحال أسقطت هذه المجاميع تلقائيا مضمون قانون التجمعات في الدول العربية كافة، ما جعل المنطقة تمور في صراعات فكرية ما لبث بعضها أن تحول إلى صراع مادي أسقط حكومات لم يكن يتصور أحد أنها ستسقط، كما حدث في تونس ومصر وليبيا، وزعزع أخرى لديها من الأجهزة والسطوة الأمنية ما لديها كما هو الحال في سورية حاليا، ومن سلم من ذلك يترقب على مستوى الحكومات والشعوب في حالة من الذهول والخوف على مصير بلدانهم، خصوصا وأن العنصر الشبابي المتحمس يشكل غالبية سكان الدول العربية.

وفي ظل الصراعات الفكرية في العالم الافتراضي وما ترتب عليها من صراعات في العالم المادي نرى توجها جديدا في كل الدول التي شهدت حراكا ماديا عنيفا سواء تلك التي نجحت ثوراتها أو تلك التي لا زالت تمارس الفعل الثوري، هذا التوجه تمثل بالدعوة للحوار بدل النزاع المسلح المُدمر للبشر والحجر والمكتسبات التنموية أو الاحتجاجات الموقفة للتنمية، ولكن وللأسف الشديد لكون الدعوة للحوار لم تأت إلا متأخرة بعد المظاهرات وسقوط الجرحى والقتلى فقد ساد مناخ الشك وعدم الثقة، لتصبح معظمها إن لم تكن كلها شبه فاشلة لغياب أهم مكونات الصراع في هذه الدول التي لا يمكن الوصول إلى حل مرض دون حضورها ومشاركتها الفاعلة ليصار إلى ما عرف اليوم بمصطلح "النظام يحاور نفسه"، إشارة إلى ضعف نتائج الحوار مبدئيا.

الحكومات والأطياف الفكرية كافة في الدول التي شهدت ثورات وما ترتب عليها تتمنى لو أنها تحاورت قبل ذلك للوصول إلى حلول عملية لمعالجة الفجوة بين الحكومات والشعوب من جهة بهدف تعزيز الحريات والعدالة والمساواة والمشاركة والرقابة ومكافحة الفساد وتعزيز خطط التنمية والحفاظ على المال العام وتحقيق فاعليته وكفاءته المثلى، وبين مكونات الشعب ونخبه من جهة أخرى لتحقيق أعلى درجات الانسجام والتسامح والتعايش بعيدا عن المناطقية والطائفية والعرقية، إلا أن الفرصة فاتت عليها وهي تسعى للتحاور في ظروف غير ملائمة.

وفي هذه البلاد ومن نعم الله علينا أننا قبل أكثر من عقد من الزمان استطعنا أن نطلق الحوار بين أطياف المجتمع كافة برعاية من أعلى سلطة في الوطن، (رحم الله من أقر ورعى ولادته واستمراره)، أثمر عن مقترح تأسيس مركز الحوار الوطني الذي انطلق من ذلك الحين في نشر الحوار حتى أصبح ثقافة وممارسة من خلال وسائل متعددة، وأقام حوارات تمس القضايا الهامة والحيوية كافة في أنحاء الوطن وبمشاركة جميع فئات المجمتع من مناطق وفئات عمرية متعددة وكل الفئات الفكرية والنساء والشباب بل حتى طلاب المدارس، وهو تمثيل مستمر في ظروف اعتيادية يملأها الثقة والتفاؤل والرغبة بالتفاهم والتسامح والتعايش والعمل يدا واحدة في تحقيق التنمية في مجالاتها كافة، الأمر الذي أسهم في تجنيب بلادنا ما حدث في بلدان أخرى.

وبالتالي فلدينا بفضل من الله أولا وأخيرا وبفضل تماسك المجتمع السعودي ورغبته بالتعايش والتنمية في إطار الشريعة الإسلامية السمحاء، أقول لدينا مركزا حواريا يعد منصة وطنية استباقية تجمع وتلجأ لها أطياف المجتمع تحت سقف واحد للتحاور المثمر البناء للتصدي لكل القضايا التنموية والمشاكل القائمة والمتوقعة بروح تسودها الأخوة والمحبة والرغبة في الحفاظ على الوطن ووحدته ومكتسباته وتعزيز قدرات موارده البشرية وثروته الحقيقية دون تمييز أو تفرقة، ولا شك أن حكومتنا الرشيدة لديها من المرونة العالية للتفاعل الإيجابي مع ما يخرج به المتحاورون وما يتوصلون له من توصيات ولدينا الكثير من الأمثلة على ذلك.

وخلاصة القول إن مركز الحوار إنجاز نوعي لكننا نتطلع إلى أمرين: الأول إشراك الشباب في الحوارات التي يتبناها مركز الحوار الوطني، والثاني أن يُدعم مركز الحوار بما يستحقه من كوادر بشرية واعتمادات ليكون منصة وطنية فاعلة قادرة على الاستجابة السريعة للمتغيرات والقضايا، بما يتمتع به من أدوات رصد واستشعار، ليوظف الحوار كأداة فاعلة بشكل سريع لأي قضية ساخنة لنزع فتيل أي أزمة في مهدها قبل أن تستفحل، ليتحاور المعنيون بها في العلن لا السر.