يؤكد عالم الاجتماع الأميركي "توماس سويل" في كتابه "المثقفون والمجتمع"، أن تأثير المثقفين على مسار التطور الاجتماعي عادة ما يكون كبيرا، غير أنه مرتبط بالظروف المحيطة بهم، وأهمها مدى حريتهم في نشر أفكارهم الخاصة.
يقودنا هذا القول إلى أن المهمة الرئيسة للمثقف هي إنتاج الأفكار ونشرها، على أساس أنها ليست الأفكار التقليدية التي تكون في متناول عامة أفراد المجتمع، بل هي أفكار مرتبطة بالضرورة بتطور المجتمعات وتقدمها وتحسين موقعها الحضاري.
وهذا الأمر يقود إلى جهود التنوير والإصلاح الاجتماعي على مر العصور، لكن ذلك لا يعني فرض قيم أو أفكار معينة بالقوة على المجتمعات، إنما يكون التأثر الاجتماعي بهذه الأفكار تلقائيا ومتدرجا، على اعتبار أنها أفكار واقعية "عقلانية" وقد تناسب معظم الفئات في المجتمع إن لم يكن كلها، ورغم ذلك فإن هذه الأفكار التي ينتجها المثقف لا تأخذ غالبا موقعها في الوسط التي تنشأ فيه، وهذا يعني عدم قبولها دفعة واحدة، لأنها ربما تعدّ جديدة بالنسبة للمجتمع فلا يتم تقبلها، لا بل تتم محاربتها واتهام أصحابها والتنكيل بهم أحيانا، وهذا أمر مشهود على مر التاريخ، وهو من أهم الأمور التي تخفض اللجوء إلى التفكير بصوت عال، لكنها بطبيعة لا تمنع التفكير وطرح الأفكار وتداولها.
يقوم الفكر على النقد، وبالتالي فالأفكار المؤثرة غالبا هي نتيجة لهذا النقد، فالموقف الفكري بالنسبة للمثقف مرتبط بالضرورة بانطلاقه في التفكير، واستقلاليته، وعدم خضوعة لسلطة الأيديولوجيا وقيودها.
وفي المنطقة العربية؛ يمر المثقف اليوم بحالة استقطاب سياسية كبيرة وهو أمام خيار خوض غمار هذه الحالة والوقوف فيها موقفا يرضيه، وبما أن الموقف الثقافي يتطلب موقفا من المشروع الوطني من أجل تجاوز الأزمة الثقافية، فإن ذلك قد يتطلب موقفا سياسيا، ولا سيما في الزمن الذي نعيشه اليوم بكل ما يحمله من خطورة حضارية في العودة إلى عصور مظلمة.
وهنا يكون نداء المثقف بموقف الوحدة الوطنية أمرا ضروريا، ونستحضر هنا بعض الذين وقفوا مثل الموقف ومن أهمهم الفيلسوف الألماني "هيجل" الذي كان له موقف واضح من الظلم والتسلط، إلا أنه في الوقت ذاته ساءته حالة ألمانيا المفتتة وما فيها من استقطاب سياسي حاد، رزحت فيها بعض ولاياتها تحت حكم أكثر تسلطا من الحكم المركزي، فكان يرى أن قوة الدولة تتضح في السلم مثلما تتضح في الحرب، وأن مهمة السياسة توحيد الأفراد داخل نطاق الدولة، وكان سائدا في عصره الخوف من الفوضى في أن تتحول الثورة الفرنسية من ثورة ضد الطغيان إلى طغيان جديد، وهذا ما جعله ينظر بإعجاب إلى تجربة توحيد إيطاليا، إلا أنه كان يؤكد على أن الرذيلة السياسية الكبرى لألمانيا هي رفض الشعب مواجهة الواقع، والتسليم بالحقائق وادعاء الأفضلية والبطولة، وقلل من مواقف الذين لا يفكرون إلا في المصلحة الشخصية أو مصلحة الطبقة التي ينتمون إليها، أكثر من مصلحة جميع المواطنين، وهكذا وُصف "هيجل" بأنه ميكافيلي آخر.
المثقف العربي اليوم يجرب حالة شبيهة بهذه الحالة الحادة في اختلافاتها ومواقفها من خلال "الربيع العربي"، إلا أن الموقف من وحدة الدول ومؤسساتها لا ينفي الموقف من ضرورة وجود الإصلاحات الشاملة، فالاضطرابات في البيئة العرضية في البيئات السليمة تجعل من امتصاص الصدمة أكثر تركيزا، وبالتالي تكون الخبرة الثقافية التراكمية لدى المثقف أكثر تأثيرا في المجال الثقافي والسياسي، مما يجعله رافدا أساسا للوطن، ورقما لا يمكن تجاوز أفكاره بأية حال.