عبرت الحي الباريسي وأنا أجرّ كسلي بقدمي المتثاقلتين. فاحت نسمات الهواء المدلكة برائحة خبز "الباجيت" الفرنسي، أنفي التهم الرائحة ودفعني إلى داخل المخبز "الباتيسري".. المكان الشهي رحب بزيارتي عبر المعروضات المتنوعة التي تحتل الرفوف.. عشرات الأنواع من الخبز والحلوى الفرنسية التقليدية العريقة، تسكن المكان تماما كما تسكن أدبياتها التاريخية والاجتماعية والإنسانية في حياة الفرنسيين، كثقافة وجزء من هوية وطنية، تنحاز للتفاصيل اليومية الحميمة للذاكرة، تماما كما تنحاز لنابليون بونابرت وشارل ديجول وفيكتور هوجو.

يبدو الفرنسيون فخورين بمعجناتهم التقليدية التي احتفظت بعبقها الشهي ورذاذ الأصابع البشرية التي عجنتها وخبزتها وطورتها، وهم غير آبهين بمرور الزمن، يحرسونها كما يحرسون تحفهم الأثرية في متاحف الفنون ويدافعون عن عراقتها واستمراريتها أكثر -ربما- مما يدافعون عن النشيد الوطني للجمهورية.

للمطبخ ذاكرة وتاريخ كالبشر، ذاكرة زمانية مكانية وعاطفية، حمايتها من الاندثار أو التشوه يتطلب ثقافة يتقنها الفرنسيون، كما يتقنون حماية لغتهم الفرنسية والانحياز إليها أمام اللغات الأخرى، رغم العولمة والإنترنت واضطهاد الآلة الحديثة لليد البشرية العاملة، وثقافة الاستهلاك السريع التي تغزو العالم وتتسلل تدريجيا إلى المستهلك الفرنسي.

سألت بعض الأصدقاء الفرنسيين عن سبب غلاء أسعار الحلوى والمعجنات والخبز لديهم مقارنة بأسعار المواد الأولية بعد أن أرهق جيبي شراؤها، أنا العاشقة للحلوى، فكان الرد: "أصحاب المخابز حرفيون، وهي حرفة تحتاج إلى الكثير من المهارة والتعب، ولا يمكن أن نأكل حلوى فرنسية أصيلة وطيبة إلا بوجودهم وتشجيعهم، ولا بد من إعطائهم أجرا عاليا".

مباشرة عادت ذاكرتي إلى الفران أبو صلاح، ابن حي الميدان، وصاحب أشهى خبز صاج ومناقيش في دمشق، وكيف عاش ومات فقيرا، لأنه رفض "فرنجة فرنه" كما كان يقول... فيما اغتنى أصحاب الأفران الحديثة التي تنكرت لماضيها وأغرقت رفوف المحلات بالحلوى الغربية والخبز الفرنجي الطارئ.

طبعا، في المخابز الفرنسية لا يوجد سوى الأصناف الفرنسية، أما الخبز والحلوى العربية وغيرها من جنسيات الأطعمة فتتوفر في محلات خاصة بها أو في المحلات التجارية الكبرى.

لا أتحدث معكم حول الخبز الفرنسي لأني جائعة في هذه اللحظة، ولا لأني أرغب بملء الصفحة حبرا لا معنى له، بل لأن مفهوم الهوية الوطنية يحتاج إلى مراجعة شديدة في عالمنا العربي، وهو مفهوم إنساني قبل أن يكون سياسيا وجغرافيا: الوطن هو الذاكرة، التفاصيل، البشر، أطباق الأمهات والجدات، لا حفنة تراب وحدود وشعارات ودروس فتوة وأناشيد فارغة ومناهج تربية وطنية معلبة، تنسينا طعم حليب أمهاتنا لصالح "ماكدونالد" الحزب الواحد، وبيبسي كولا القائد الخالد والأبدي.

الفرنسيون لا يعتزون بمطبخهم لأنهم سطحيون أو سخفاء أو شرهون، بل لأنهم يعون أنه جزء من تاريخهم وتقاليدهم وثقافتهم، على عكسنا تماما نحن المهللون للوجبات الأميركية السريعة والخجولون من أطباقنا التقليدية غير المواكبة للموضة الغذائية الرائجة.

تحدثت عن الخبز والحلوى حصرا لأني دخلت إلى المخبز قبل كتابة المقال كما أخبرتكم في بدايته، إلا أن اعتزاز الفرنسيين بمطبخهم ينسحب على جميع الأطباق الفرنسية الأخرى وعلى جميع المهن والحرف ذات الخصوصية الفرنسية، وتشهد باريس معارض مستمرة لترسيخ هذه الثقافة، بدءا من معارض الأزياء القديمة والتحف والفنون اليدوية الفولكلورية وصولا إلى معارض الجبن والخبز والحلوى وغيرها.

والآن هل يحق لي أن أحلم بمعرض سعودي يشرح تاريخ الكبسة وحليب النوق والبلح السعودي مثلا؟

أو معرض عربي للفلافل يشرح للعالم أن الفلافل طبق فلسطيني لا إسرائيلي كما يروج الإسرائيليون؟

مطابخ الشعوب هي ذاكرتهم الحية... لا تتركوها نهبا للصوص الموائد.