لقد ذهل العالم أجمع بمشاهدة مجموعة من تنظيم داعش التكفيري الإرهابي، يحطمون تماثيل ومحتويات متحف الموصل التي يصل عمرها إلى آلاف السنين ولا يمكن بأن تقدر قيمتها المعنوية بأي ثمن، كونها تمثل تاريخ تطور ورقي الإنسان في العالم أجمع بلا استثناء. السؤال الذي يجب أن يحسم قبل مناقشة جريمة داعش في تحطيم تماثيل ومقتنيات متحف الموصل، هو: هل قيمة هذه التماثيل والمخطوطات في متحف الموصل أو أي متحف آخر في العالم، أكبر وأعظم أهمية من قيمة الإنسان الذي يقتل ويداس ويسحق يوميا في فلسطين والعراق وسورية وليبيا أو في أي مكان آخر من العالم؟ الجواب طبعا لا. ولكن لكل مقام مقال، ومقالنا في هذا المقام هو من أي كهوف مدلهمة الظلمات أتانا داعش؟ ومن على شاكلته من التنظيمات الإرهابية؟ ومن أين لهم هذا الاحتياطي البشري المتدفق عليهم بلا نضوب؟

التماثيل والمخطوطات ومحتويات أي متحف تمثل إرثا للحضارات الإنسانية جمعاء، ولو أسميناها بالآثار الآشورية أو الفرعونية أو اليونانية أو غيرها من الحضارات الإنسانية. ولذلك فليس بالمستغرب أن يهب كل العالم لمساعدة أي دولة تتعرض آثارها القديمة للتلف، ولو من جراء الكوارث الطبيعية. ويصيبها الرعب والذعر أكثر عند تحطيم آثار أي حضارة إنسانية عنوة في أي مكان في العالم.

وكان من السهل على داعش وغيره من التنظيمات التكفيرية أن يحطم آثار الحضارة الإنسانية كونه قبل ذلك كفر بالإنسان نفسه، حيث حطمه وقتله وشرده وباعه وسحقه ونحره وأحرقه ومثل بجسده، ودون أي رادع أو تأنيب ضمير. إذًا هو جرد نفسه من الإنسانية نفسها، وقدم نفسه عدوا للإنسان، فما المستغرب أن يقوم بتكسير وتحطيم شواهد التاريخ الإنساني العظيم. فتحطيم آثار تاريخ الحضارة الإنسانية إعلان صريح بالانسلاخ من الإنسانية نفسها ومناصبتها العداء.

إذًا فمن هم هؤلاء الدواعش؟ ومن أي حقبة تاريخية غابرة أو حقبات تاريخية بائسة تسللوا منها خلسة إلينا؟ وهل هم حقا مسلمون ويمثلون الإسلام؟ إذا كانوا ليسوا بمسلمين ولا يمثلون دين الإسلام الحنيف، كما يؤكد ويكرر الكثيرون من رجال الدين والسياسة، إذًا فلماذا هم يسمون أنفسهم بالمسلمين ودولتهم بالدولة الإسلامية؟ ليس هذا فقط، ولكن بالخلافة الإسلامية، أي هم يطرحون أنفسهم ممثلين لكل المسلمين، ولماذا لهم أتباع من المسلمين، يأتونهم زرافات من كل بقاع الأرض، وحتى الأوروبية منها. فإذا كانوا مسلمون فلماذا هم يفعلون ما يفعلون؟

قد يقول قائل إنهم صنيعة استخباراتية عدوة تريد تشويه الإسلام والمسلمين. فمن المعروف أن أي استخبارات عالمية مهما أوتيت من قدرة وجبروت لا تستطيع خلق شيء من لا شيء، في أي بقعة من العالم. نعم تستطيع الاستخبارات تجنيد عملاء لها في أي بلد تشاء، ولكن لا يمكن أن يتجاوز عددهم العشرات. ولكنها، في الوقت نفسه، تستطيع استغلال شيء موجود، وتستطيع اختراقه والنفخ فيه وتوجيهه، إن أمكنها ذلك. إذًا فالدواعش هم منا وبنا، وعليه نرجع لسؤالنا الأول: من هم هؤلاء الدواعش وكيف نشأوا وتكونوا بيننا وفي بيوتنا، قبل أن تخترقهم استخبارات أعدائنا وأعداء ديننا الحنيف وتستخدمهم ضدنا وضد ديننا، هذا في حال أنها فعلت؟!

وحتى نصل إلى جواب السؤال، هل الدواعش مسلمون أم لا؟ يجب أن نسأل السؤال التالي: هل هنالك إسلام واحد؟ أم أن هنالك أكثر من إسلام؟ وإذا كان الجواب أن هنالك إسلاما واحدا، إذًا فهم مسلمون. أما إذا كان الجواب أن هنالك أكثر من إسلام، بعضها يحمل ويتبنى رؤى إسلامية شاذة؟ إذًا فالجواب هنا يكون بأنهم مسلمون شاذون عن صراط الدين القويم. وعليه يترتب علينا طرح السؤال التالي: بما أن الدواعش يتبعون أحد هذه الإسلامات الشاذة، التي لا تحمل لا روح الإسلام ولا منهجه الحضاري بما يكفي للتعبير عن الدين الإسلامي فلماذا حصلوا على مؤيدين كثر من شبابنا؟ جلهم إن لم يكن كلهم على استعداد للموت في سبيل تطبيق أجندات داعش المتوحشة ونحن نعتنق الدين الإسلامي القويم، ونعيش في وسط قمة الحضارة الإنسانية!

هنا يترتب علينا طرح السؤال التالي: ما هو إسلام داعش؟ ولماذا أصبح شاذًا عن روح الإسلام ومنهجه الحضاري؟ وحتى مناهج الحضارات الإنسانية كلها؟ ومع ذلك يصرون على أنهم يتبعون ويمثلون الإسلام النقي الذي لا شائبة فيه؟ ويتبعهم الكثر، ويتعاطف معهم الأكثر، ويبرر وجودهم الأكثر والأكثر! ولو عن طريق "ولكن".

الأجوبة عن الأسئلة أعلاه تدل على أن ظاهرة داعش والتنظيمات التكفيرية أصعب من أن يجيب عنها أي إنسان بيسر وسهولة. ومن ادعى أن لديه أجوبة جاهزة عن رصد ظاهرة داعش والتنظيمات التكفيرية وتشخيصها، سيجد نفسه أنه يناقض نفسه بنفسه. ورغم كل ذلك، فلا مفر من محاولة رصد نشوء ظاهرة داعش والتنظيمات التكفيرية بيننا وفي هذا الزمن، وفي هذه اللحظة وعلى هذه الكيفية.

هذا برغم ما ندعيه كدول ومجتمعات وعوائل وأفراد، بأننا نساير العالم علما وحضارة والنتيجة هل نحن نغش أنفسنا قبل غشنا لغيرنا؟ ليس فقط كون أبنائنا كمسلمين ولكن حتى بناتنا، أخذوا يتسللون من بيوتنا العامرة بثقافة الوسطية، كما نتوهم، وينضوون الواحد تلو الآخر، قنابل موقوتة في صفوف داعش والحركات التكفيرية، هذا برغم ما أوتينا من العلم والرفاهية ورغد العيش. إذا كيف أصبحنا نربي داخل بيوتنا وبين أحضاننا قنابل بشرية ملغمة وموقوتة، ونحن ليس فقط لا ندري ولا نعي، ولكن أيضا نفتخر أننا نعتنق الدين الإسلامي الوسطي الحنيف؟

إذًا فيجب ألا تعنينا هنا الكهوف البعيدة عنا، أو الغابرة منا التي خرج منها الدواعش والحركات التكفيرية وما سيخرج مثلها لاحقا. ولكن يعنينا أكثر إن كنا جادين فعلاً وصادقين مع أنفسنا، الكهوف القريبة منا التي يجب أن نبخصها أكثر من غيرنا، ودون أي تنظير أو تحريف أو تزوير. إنها بيوتنا التي لا تكل ولا تمل من تفريخ القنابل الموقوتة التي تغذي وتمد داعش وغيرها، وما سيأتي بعدها من التكفيريين والتفجيريين.

إذن فمن بيوتنا يصدر داء الإرهاب، وفي بيوتنا كذلك يكمن دواء الإرهاب. فإن كنت تحمل أي شيء من العنصرية والطائفية وكره الآخر والحط من قيمة المرأة وازدراء الفن، فأنت في الأول والأخير عدو للإنسان وغير متسامح. مهما صليت وحججت وصمت وقمت، وتبجحت بوسطيتك. وعليه يتحتم عليك مراجعة قيمك الإنسانية وقيم دينك الحضارية التي تدعيها. وإلا فتأكد أن بيتك قد تحول أو جاهز ليتحول إلى خط إنتاج لقنابل بشرية موقوتة قابلة للانفجار، بوجهك قبل وجوه إخوانك في الدين أو في الدم أو في الإنسانية، في أي مكان أو زمان.

وعليه فتقدير إنسانية الإنسان واحترام كرامته هي المفتاح الذهبي لولوج الإنسان للوسطية والتحضر، وعليه الإنسانية.. وهذا بعد الله، حصنه وحصن بيته الحصين، من أن يتسلل كره الإنسان لبيته، وعليه امتشاق أبنائه وبناته أحزمة الإرهاب الناسفة.