في ذروة سطوة المد الاشتراكي في الستينات الميلادية ودغدغة المشاعر بالمساواة وتوزيع الثروة أشاع مثقفو اليسار أن الفقر سبب رئيس في الجريمة.
وفي هذا بعض الحق وليس كله، فالجريمة بلا أب ولا عرق ولا دين، وقد بدأنا في العالم العربي نتعرف على جيل جديد من الإرهابيين وهم من أبناء الذوات والأسر الثرية الموسرة الذين لم يتذوقوا مرارة العوز ولا حموضة الفاقة، ولا ذل الحاجة لكنهم مع ذلك أصبحوا من قادة المنظمات الإرهابية ونجوم التفجير ومباشري تنفيذ الحز والجز للرقاب وقتل النفوس البريئة وإسالة الدماء المعصومة على الهواء مباشرة.
إن معظم قادة التنظيمات الإرهابية والمتسيدين على إدارة أمورها هم من الذين عاشوا في القصور وانغمسوا في الحياة المدنية الغربية وتلبستهم إلى حين حالة من العصرنة والحداثة، كما تلقوا تعليمهم في أرقى الجامعات الغربية وفي أصعب وأدق التخصصات العلمية، فما بالهم انتكسوا على أعقابهم وعادوا إلى حياة القفار والكهوف؟!
الظاهر هو أن معظم هؤلاء ربما يكونون ممن فاق تدليلهم الحد المعقول الذي تزيد معه درجة الأنانية، وترتفع عنده درجة الأنا العليا، التي يعتقد معها هذا "المدلل" أنه مهموم ومنشغل بإصلاح العالم فيبطش متى سنحت له الفرصة، وهكذا انشغل قادة القاعدة بهاجس تقليم السطوة الأميركية ونفوذها العالمي بعد ما كانوا تحت قيادتها ويحاربون تحت رايتها لطرد الاتحاد السوفيتي من أفغانستان، ثم ما أعقب الخروج السوفيتي الشعور "بالطاووسية" التي ظنت معها القاعدة أن دور التصحيح والإصلاح قد جاء على أميركا، ومن هنا جاءت أحداث 11 سبتمبر ثم ما أفرزته من سلبيات عادت بالسلب على العمل الخيري الإسلامي، بل تحولت من بعده بوصلة التوافق الأميركي باتجاه إيران والتوجس من المد السني الذي صار في نظرهم أيقونة للتشدد والتطرف، وهكذا صرنا نرى انعكاسات كل ذلك في التحولات التي تشهدها المنطقة، التي تجلى أثرها واقعا على الأرض من خلال النفوذ الإيراني في العراق وسورية واليمن وفي بعض الجيوب والمفاصل الصغيرة في العديد من الدول العربية والإسلامية.
وهكذا فالفقر ليس سببا رئيسا في هذه الإشكالية، بل على العكس فالفقر يكسر القلب ويجعله – مع حاجته- رحوما وعطوفا.
ومعلوم أن ظاهرة التطرف لدى أبناء السلالات الميسورة وأبناء النعمة سبق لها أن راجت في أميركا اللاتينية وأوروبا في الخمسينات الميلادية وما أعقبها من خروج بعض الثوار الذين صار هاجسهم الخطف والقتل، وهم الذين صاروا نجوما حتى أنهم عرفوا في تلك الفترة – كما يذكر الأستاذ سمير عطاالله- بــ"ثوار الجاغوار"، وهم من الذين سعوا للتميز والاختلاف، ولفت الأنظار خاصة عندما ترفع الشعارات المثالية (التحرير أو مواجهة الإمبريالية أو إخراج المشركين أو دحر الشيطان الأكبر.. إلخ)، وهذه المثاليات الطوباوية تجد لها رواجا عند البعض، كما أن الإمارة والقيادة وهاجس الخلافة وما إلى ذلك كلها أسباب محفزة لمثل هذا الاستقطاب الذي صار ملتقى لعيال النعمة من الذين صاروا يجرمون في حق دينهم وأمتهم وأوطانهم دون أن يرف لهم جفن.