أسهمت طبيعة تضاريس الجزيرة العربية القاسية قبل ظهور الإسلام في بناء شخصية الإنسان العربي الشرسة الحادة والصلبة، ورسمت حالة تصحر معظم مساحات شبه الجزيرة العربية سحنات وجهه وتفاصيله، وأفرزت تبعاً لذلك مجتمعاً بكيانات قبلية صغيرة متناثرة، يجمع ما بينها البنية التركيبية، ويميزها سلوك العصبية.

ولم يسجل التاريخ قيام أية أنظمة شبيهة أو قريبة من أنظمة الدولة بمعناها السياسي والاجتماعي، وفي ذلك يقول ابن خلدون في مقدمته "إنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض، للغلظة والأنفة، وبعد الهمة، والمنافسة في الرياسة، فقلما تجتمع أهواؤهم"، وتابع قائلاً: "وهم أكثر بداوة من سائر الأمم، وأبعد مجالاً في القفر، وأغنى عن حاجات التلول وحبوبها، لاعتيادهم الشظف وخشونة العيش، فاستغنوا عن غيرهم فصعب انقياد بعضهم لبعض لإيلافهم ذلك وللتوحش".

وقد عُرفت الفترة الزمنية لما قبل الإسلام بـ"العصر الجاهلي"، وهي تسمية غير منطقية من وجهة نظري، إذ الجهل يقابله العلم لغوياً ومنطقياً، والأرجح أن ما كانت عليه حالة التخلف والتناحر والقتال بين تلك القبائل، هو السبب المنطقي لاستخدام وإطلاق وصف "الجهل" عليها، فالابتعاد عن المنطق والعقل سبب مسوغ لتبرير الوصف.

وبظهور الإسلام وانتشاره بين تلك القبائل، خفتت نوعاً ما حدة الطباع الشرسة للإنسان العربي بصفة عامة، لكنها استمرت معه عبر أجياله اللاحقة وإلى يومنا هذا وإن بنسب متفاوتة، متخذة أشكالاً متعددة، كان أبرزها وأهمها على الإطلاق ما تمثل في معاداة مذاهب العقل والمنطق والفلسفة، وتغليب مبادئ النقل والتواتر للمرويات، والتي تُعتبر ثقافة أصيلة في الوجدان العربي. فنحن العرب بصفة عامة لم نكن أصحاب ثقافة كتابة وتدوين، بل أصحاب ثقافة رواية ومشافهة، حتى إن اسم كتابنا المقدس هو (القرآن)، لذلك فمن السهل والمنطقي جداً أن يضيع قسم كبير من ذاكرة التراكم الثقافي التاريخي للعرب كالفنون والأدبيات، وهو ما تسبب في الحد من نمو ثقافة وخبرات العقل وازدهار عمليتي التفكير والتأمل الباحثتين عن الإبداع والابتكار.

وحين تمدد الإسلام إلى خارج شبه الجزيرة العربية، واختلط العرب المسلمون بمختلف الأجناس الأممية الأخرى صاحبة الثقافة التدوينية، في الشام والعراق وفارس وبلاد ما وراء النهرين، انفتحت أبواب التنوير التي ظلت موصدةً لحقب طويلة في ثقافة العرب، وتحسنت إلى حدٍ ما طريقة تفكير العربي مع تنوع طرق الطرح والتناول، وبدأت بوادر الانتفاضة والتحرر من قيود الظلام تلوح في الأفق، لكن تكوين العقل العربي المنفصل عن العلوم الفلسفية والمنطق، وبنية الشخصية العربية الخشنة بقيتا متلازمتين على نحو ما، وتضغطان باتجاه الماضي المعقد والمستبد.

وحين بدأت بالظهور إلى واقع المجتمعات العربية والإسلامية طلائع المذاهب الفكرية التي ترى في العقل حجة ومفصلاً، عاد الجاهلي المختبئ في أعماق العربي ليستيقظ من غفوته القصيرة، وليحرف في حربه الضروس على العقل اتجاه بوصلة التنوير المحتملة، ويقضي على أولى العلامات المبشرة بالضوء، في آخر نفق جهل وتخلف العقل العربي والإسلامي، وليتحول الاختلاف المحمود بين المذاهب الفكرية والأئمة، إلى خلاف قبيح ومذموم بين عشية وضحها. حدث ذلك في القرون الأولى، وها نحن اليوم نعيش نفس المشهد - الذي لم يختلف كثيراً عن سابقه - على طريقة القبائل العربية قبل الإسلام طبعاً، ولكن هذه المرة بجلباب الإسلام البريء مما يفعلون.

ينقل التاريخ عن الإمام الشافعي قوله في الإمام أبي حنيفة: "الناس عيال على أبي حنيفة في الفقه". وهكذا كان أصحاب المذاهب العقلاء يتحدثون عن بعضهم، اليوم يكفي أن تفتح القنوات الفضائية، أو تتصفح قليلا موقع "يوتيوب" لتكتشف الحقيقة المؤلمة عن (مسخرة) العقل العربي والإسلامي، وستشعر مثلي بالغثيان لا محالة.