في كل مرة أرى قائمة عرض المجلات سواء كان ذلك في المكتبات أو في الأسواق والمطارات، تزداد دهشتي فيما يخص المزايدة في استخدام المرأة وجها وجسدا لبيع المنتجات، وهذه الظاهرة أصبحت ظاهرة عالمية لا يختلف فيها العالم الشرقي عن العالم الغربي، بل لا نكاد نجد غلاف مجلة ليس فيها تركيز على وجه أو جسد.
إنه هوس جنوني ابتليت به الإنسانية في عصرنا هذا، أعني الهوس بالجمال الجسدي والمظهر الخارجي، مما جعل تعريف الذات من خلال الجسد هوية أناس كثيرين، بل وانتقل إلى بعد آخر لم تشهده عصور سابقة من حالات مرضية، نظرا لدور الإعلام السلبي في تحديد صور ثابتة للمعايير الجمالية، وصوَّر للناس إمكانية إحرازه والوصول إليه، بل وكأن تحقيقه أصبح من الأمور الطبيعية، في حين أن أقل من 5% من النساء يستطعن أن يصلن إلى ما يصوره لهن الإعلام من أوزان مثالية، وما ظاهرة الإكثار بالنظر للمرآة إلا انعكاس لهذا الهوس المرضي، حتى الأشخاص الجذابين لم يستثنوا من هذه الظاهرة نتيجة فقدهم ثقتهم الداخلية.
بل بينت الدراسات أن الأشخاص الجذابين لا يستفيدون نتيجة ميزة جمالهم على مستوى احترام وتقدير الذات، لأنهم غالبا لا يثقون بالمديح والثناء على مواهبهم وملكاتهم وعلمهم، لاعتقادهم أن تقييمهم قد تأثر بجاذبيتهم وبصورتهم الخارجية، وبشكل عام فإن ثمانين بالمئة من النساء غير راضيات عن انعكاس صورهن في المرآة، فأين هن من معايير جمال المرأة التي رسمها الإعلام لهن؟
وفي دراسة بجامعة ستانفورد وجامعة ماسيتشوستس وجد أن 70% من طالبات الجامعة قلن إنهن شعرن بحالة أسوأ بعد قراءة مجلة نسائية، وفي دراسة مشابهة عام 2006 نشرت في (Journal of Psych) (مجلة علم النفس) وجدت أن الرجال كذلك يشعرون بعد مشاهدة التلفاز بعدم الراحة والإحباط ومشكلات في القدرة الجنسية، ويؤدي ذلك إلى اتباع سلوكيات وعادات غير صحية.
تذكرت كيف كان فكري في مراحل مختلفة من عمري مشغولا ومنهمكا بشكل كبير برياضة كمال الأجسام كما يسمونها وإن لم يكن لها من اسمها نصيب كبير، بل هي أبعد ما تكون عن الكمال، فهي تركز بالدرجة الأولى على بناء العضلات والشكل الخارجي للجسد، وليس بالضرورة على صحة الجسد الحقيقية من مرونة وتحمل ولياقة فسيولوجية، فكنت أنا كذلك ضحية وأصابني شيء من هوس التماهي مع الجسد والتأثر بما يمليه ويفرضه علينا الإعلام من معايير جمال، وكيف يجب أن يكون عليه شكل جسدي الذي سأقيَّم من خلاله.
وفي دراسة لطلاب الجامعات وجد أن 74% من الطالبات و46% من الطلاب يفكرون في أوزانهم وأشكالهم طوال الوقت، ويتكون عند هؤلاء ما يسمى بدائرة مغلقة شريرة، فعلى قدر تركيز واهتمام الإنسان بشكله الخارجي ومظهره، يكون سوء نظرته لشكله وكيف يبدو، وبذلك فإن الهوس بالشكل يغذي السخط عليه، وتستمر هذه الدائرة المغلقة الشريرة يغذي بعضها بعضا بين الهوس والسخط.
فلا عجب أن نرى انتشار العمليات التجميلية التي تعدت المدعاة الطبية من حروق وجروح لتصبح هوسا للسعي وراء أنف مميز، وشفاه أكبر وأكثر صحة، وتجميل للأذنين والعينين، وتكبير أو تصغير للثديين، وشد البطن وعمليات الليزر والبوتكس وغيرها من التقنيات الحديثة.
لقد وزع الله الجمال على عباده وجعل للجمال أوجها مختلفة، ولكن المحزن هو أن تقدير هذا التنوع الطبيعي للجمال تم قتله بغسل الأدمغة من خلال إعلام حدد معايير الجمال، وبذلك نكس فطرة الإنسان الطبيعية لرؤية الجمال وتقديره في صوره المتنوعة الطبيعية.
ابتسمت وأنا أتذكر أيام تدريبي في كلية الطب بجامعة جورج واشنطن، وكجزء من التدريب فإننا كنا نقضي بعض الشهور في تخصصات مختلفة، منها تخصص جراحات التجميل، وكنت آنذاك في منتصف العشرينات، وأعجب من أشخاص يريدون إجراء عمليات تجميل وقد حباهم الله جمالا خلابا، ولكنهم لا يستطيعون أن يروا جمالهم الطبيعي ويسعون إلى تصغير أنوفهم أو تكبير شفاههم، إلى غير ذلك.
نعم إننا نعيش في عصر أصبحت فيه المجتمعات أكثر هوسا بالمظهر والشكل الخارجي مما تحب أن تعترف به، عصر يحابى فيه على مستوى اللاوعي المظهر الحسن وجمال الشكل الخارجي بالمعايير التي حددها الإعلام، ويعطى أصحابه التميز في كل مجالات الحياة، في المدرسة والعمل، بل وفي المحاكم، فقد وجد أن الأشخاص الجذابين تصدر في حقهم أحكام أقل من غيرهم، وعندما يحكم عليهم فإنهم غالبا ما يتلقون أحكاما مخففة.
عصر يعتقد غالبيته على مستوى اللاوعي أن جمال المظهر الخارجي معناه أن الشخص خيِّر، وأنه يملك صفات أخرى خيرة كالذكاء والثقة ومهارات اجتماعية وحتى مزايا أخلاقية، وهذا بالطبع غير منطقي وغير صحيح، ولكنه متجذر في عمق لا وعي إنسان اليوم وتقويه وتغذيه وسائل الإعلام المرئية، إنها الجميلة النائمة.. إنها باربي وإنها سندريلا.
صحيح أن الأخذ بأسباب المحافظة على سلامة الجسد واجب على كل إنسان عاقل يدرك أن الجسد هو وعاء العقل والنفس والروح، بل ويكافئ الدين الإسلامي العبد على محافظته على هذه الأمانة العظيمة التي سيسأل عنها يوم القيامة "عن جسده فيما أبلاه"، بل وجعلها الإسلام صورة من صور العبادة، ومن أسمى المقاصد العليا للشريعة الإسلامية.
وفي مقال قادم بإذن الله سنحاول الإجابة عن سؤال: لماذا نرى صنفا من الناس عندما يذبل الجسد ويشيخ لديهم فإنك ترى العقل والروح يشعان من خلال أجسادهم، فلا يزيدهم ضعف الجسد إلا شفافية وبريقا، وكأنما تشع أرواحهم من خلال أجسادهم النحيلة الواهنة، وصنفا آخر إذا وهنت أجسادهم وذبلت ملامحهم وصفاتهم الجسدية وهنت معها وذبلت عزيمتهم وثقتهم وإقبالهم على الدنيا.