(أكان الصبا إلا خيالا مسلما

أقام كرجع الطرف، ثم تصرما

أرى أقصر الأيام أحمد في الصبا

وأطولها ما كان فيه مذمما

أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا

من الحسن حتى كاد أن يتكلما

وقد نبه النوروز في غلس الدجى

أوائل ورد كن بالأمس نوما

ورق نسيم الريح، حتى حسبته

يجيء بأنفاس الأحبة، نعما)

البحتري

يوافق اليوم 21 مارس بداية فصل الربيع وفي النص السابق يسير البحتري مع الربيع والفرح به والزمان في قصيدته الشهيرة منطلقا من فكرة كون الشباب طيف خيال سلّم وودع بسرعة وكأن عمر الشباب قصير كربيع الزمان القصير بين فصول العام!

وجمالية البحتري في هذا الربط وفي مزج الربيع بنفسه جعلت هذا النص الذي كتبه الشاعر مادحا يصبح من أشهر ما قيل في وصف الربيع في لغتنا حتى إننا نسينا الممدوح المعني بالقصيدة!

والجمال الذي يحمله الربيع في قول صفي الدين الحلي:

(ورد الربيع، فمرحبا بوروده

وبنور بهجته، ونور وروده

فصل، إذا افتخر الزمان، فإنه

إنسان مقلته، وبيت قصيده

يغني المزاج عن العلاج نسيمه

باللطف عند هبوبه وركوده)

والنوروز الذي يوافق اليوم ويعتبر عيدا قديما عند الفرس مأخوذ من (نو: بمعنى جديد، وروز بمعنى يوم) ويقال إن الكلمة عرفت في اللغة العربية معربة نيروز أو كما هي نوروز في العصر العباسي وشاع استخدامها. واختلف في سبب تسميته والاحتفال به فهناك مجموعة من الأساطير والحكايات الفارسية والكردية تتشابه وتتشابك وتربطه بالرزق والسعادة أو ببطولات وانتصارات فتبرر الاحتفال بهذا اليوم والأيام التالية له.

ويبدو أن الاحتفال بهذا اليوم كان مرتبطا بطقوس دينية سبقت دخول الفرس للإسلام بل وسبقت التدوين وبقي منها هذا العيد في ثقافة فارس والثقافات القريبة والمتداخلة معها.

ويبدو أن لجمال الربيع النوروز أو (شم النسيم) كما يسمى عند أقباط مصر سببا للبهجة والاحتفاء.

ويبدو أن شاعرنا البحتري أيضا مأخوذ بجماليات الثقافة الفارسية التي وقف عند إيوانها وبكى نفسه في سينيته الشهيرة التي مطلعها: (صنت نفسي عما يدنس نفسي).

والحقيقة أن ثقافة الفرس بهرت العرب خاصة في العصر العباسي الذي غلب عليه التسامح والامتزاج الثقافي وأبدع شعراء الفرس من بشار بن برد لأبي نواس؛ وابن الرومي أيضا فارسي الأم نموذج لأعلام في الشعر وهو أصعب منتج لغوي يعز حتى على أبناء اللغة ذاتها!

واللغة أيضا يعود نحوها لسيبويه وإن كان الصراع عليها بين مذهب بصري وكوفي إلا أن ناقل نحوها فارسي! نظام الوزارة ودواوينها أخذه العرب عن الفرس من عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

لو تأملنا اليوم الواقع سنجد أن هناك فجوة ثقافية تزداد كل يوم بين بعض العرب والفرس وتزداد قوة من جانب آخر مع بعض المرتبطين بمصالح مع إيران لا أريد أن أفسد الحديث، لكني أتألم أن ما تبقى لنا مع ثقافة فارس هو الصراع والخوف من فرض السيطرة والحرب والاستبداد! ولا أظن أن ما تبقى لنا في عيونهم أحسن!

أين جمال مذاق العسل والفستق الإيراني والفن من سجاد للوحات غنية بالفن والجمال في ذائقتنا؟ ولماذا لم يعد هو البارز في ذاكرتنا؟

أزعم أنه لم يتبق في أذهان كثير منا إلا صورة معمم يطلق خرافات وفتاوى غريبة تنتشر عبر مواقع التواصل، كما ينظر لنا الطرف الآخر نظرة جعلت لباس العرب والاحتفاء بفريق عربي سببا للاعتقال!

نسينا أننا نجتمع على الإسلام الذي أصبح وسيلة للخلاف والعداء وإطلاق فتاوى تبيح الدماء أو وصفهم بأنهم أشد كفرا! بل الأدهى أصبحنا نفترق بسبب فهمنا الخاص له فابتعد المسلمون عن إسلامهم! الشعوب حين تمتزج تذوب الخلافات وتكشف عن جمال إنسانيتها، أذكر في مكة حين يحضر الحجاج الإيرانيون يحمل عدد منهم الفستق والحلوى ويوزعونها على الأطفال في الحرم وهو منظر بالمناسبة يميزهم بين الحجاج والعمار ومع رفع الصوت بالتكبير في المطاف، ما أجمل تداخل أصواتهم مع صوت طائف عراقي أو شامي أو أعجمي من أقصى الأرض بالكاد تميز من نطقه لفظ الجلالة!

نعمة وميزة هذا الدين هما الامتزاج مع الاختلاف، وأجمل ما في وطني أنه يقدم أقصى ما يستطيع لخدمة هذا الاختلاف الجميل والامتزاج ومكة أكثر مكان يتحقق فيه الامتزاج المختلف اليوم.

ومن أجمل ما حمله الإسلام التعارف بين الشعوب والقبائل والتمازج، فكما أن هناك عربا في أحواز فارس بالمقابل هناك في بلاد الخليج أسر كثيرة ذابت بيننا من أصول فارسية، ونعود لنختم ما بدأنا به وهو البحتري وبكاؤه على إيوان كسرى المتهدم وقوله في نهاية القصيدة :

فلها أن أعينها بدموع

موقفات على الصبابـة، حبس

ذاك عندي وليست الدار داري

باقتراب منها، ولا الجنس جنسي