تحدثنا في مقال سابق عن الهوس الجنوني الذي ابتليت به الإنسانية في عصرنا هذا، وهو الهوس بالجمال الجسدي والمظهر الخارجي، ما جعل تعريف الذات من خلال الجسد هوية أناس كثيرين، بل انتقل إلى بعد آخر لم تشهده عصور سابقة من حالات مرضية، نظراً لدور الإعلام السلبي في تحديد صور ثابتة للمعايير الجمالية، وصوَّر للناس إمكانية إحرازه والوصول إليه، بل كأن تحقيقه أصبح من الأمور الطبيعية، في حين أن أقل من 5% من النساء يستطعن أن يصلن إلى ما يصوره لهن الإعلام من أوزان مثالية، وما ظاهرة الإكثار من النظر إلى المرآة إلا انعكاس لهذا الهوس المرضي، حتى الأشخاص الجذابون لم يستثنوا من هذه الظاهرة نتيجة فقدهم لثقتهم الداخلية.

ورأينا أن أغلب أهل عصرنا يعتقدون على مستوى اللاوعي أن جمال المظهر الخارجي معناه أن الشخص خيِّر وأنه يملك صفات أخرى خيرة كالذكاء والثقة ومهارات اجتماعية وحتى مزايا أخلاقية، وهذا بالطبع غير منطقي وغير صحيح، ولكنه متجذر في عمق لاوعي إنسان اليوم وتقويه وتغذيه وسائل الإعلام المرئية، إنها الجميلة النائمة.. إنها باربي وإنها سندريلا.

صحيح أن الأخذ بأسباب المحافظة على سلامة الجسد واجب على كل إنسان عاقل يدرك أن الجسد هو وعاء العقل والنفس والروح، بل ويكافئ الدين الإسلامي العبد على محافظته على هذه الأمانة العظيمة التي سيسأل عنها يوم القيامة "عن جسده فيما أبلاه"، بل وجعلها الإسلام صورة من صور العبادة، ومن أسمى المقاصد العليا للشريعة الإسلامية.

وكذلك الحال في الأخذ بأسباب الجمال "إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ"، و"خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ"، ولكن عندما يصبح هذا الجسد هو الهدف والغاية، ينقلب ليصبح هوية، فيرى الإنسان من خلاله نفسه وقيمته الذاتية، عندها يكون الإنسان قد اختزل عقله وروحه وكيانه كله في شكله وصورته الخارجية، وهنا يكون الإنسان قد تماهى مع صفاته الجسدية وتعلق بها تعلقاً مرضياً. فإذا حدث ذلك فاعلم أن وراءها (الأنا) المزيفة الوهمية والتي هي من صنع أفكار الإنسان وخياله وتصوره عن نفسه والعالم من حوله والبشرية.

فتصبح (الأنا) عند هؤلاء هي أجسادهم، وتبدأ معها معاناتهم النفسية، فعند هؤلاء يصبح الإحساس بالهوية والأهمية والقيمة الذاتية مرتبطاً بشكل وثيق بالبدن والصفات الجسدية من قوة أو وهن وضعف ومن قبح أو جمال وجاذبية، وإن لم يكن هناك قبح إلا في الصورة المشوهة للجسد في عين صاحبها، وقد تكون بعيدة كل البعد عن صورته الحقيقية.

إن رؤية الذات والهوية من خلال أي شيء متقلب متغير يعني أن الهوية ستتقلب بتقلباته، فصفات الجسد تتلاشى وتخفت وتضعف وتمرض وتشيخ وتذبل وتموت.

فلا عجب إذًا من انتشار الأمراض الجسدية التي يسببها هذا التعلق بالجسد، ومنها مرض فقدان الشهية العصبي نتيجة الخوف الشديد من البدانة أو زيادة الوزن، وبالتالي تشوه صورة أجسادهن في أعينهن، فيعانين من اكتئاب وانخفاض الثقة بالنفس، ولذلك يمتنعن عن تناول الطعام عن طريق الادعاء بعدم وجود شهية للطعام، رغم أنهن في أقصى حالات الجوع، ويصاحب ذلك وسواس بكل ما يتعلق بالأكل وبوزن الجسم، مما ينتج عنه نقص في وزن الجسم بشكل حاد قد يعرض حياة المريض للخطر.

ومن الأمراض الأخرى مرض البوليميا (Bulimia nervosa) أو الشره المرضي العصبي، وهو أحد اضطرابات الأكل الذي يتسم بنوبات متواترة من الإفراط في الطعام تسمى نوبات الأكل الشره تتبع بتصرفات تعويضية مُعدلة مثل التقيؤ الذاتي باستخدام دواء مقيئ أو تسهيل البطن، لإزالة الطعام من الجسم قبل هضمه، وكذلك سلوكيات تعويضية تحدث في أقل من 8% من الحالات، كالرياضة المفرطة والصوم بعد نوبات الأكل الشره لموازنة فقدان السعرات الحرارية بعد الأكل.

إنها (الأنا).. (الأنا) التي إذا عثرت على هوية فإنها تأبى التخلي عنها، بل إن (الأنا) في سعيها لتقوية هويتها، تستطيع أن تخلق المرض فتقوي نفسها من خلاله. ومعظم من يعانون من أعراض اضطرابات التغذية لا يملكون نظرة واقعية لشكل أجسادهم الحقيقية، فقد ترى المرأة نفسها سمينة، في حين أنها أشبه ما تكون بالهيكل العظمي، وفي عينيها هذا الوزن هو مثالي بالنسبة لها، وهي تحارب من أجل أن تصل إليه وتحافظ عليه.

بل وصل هذا الهوس إلى الأطفال الذين لم تكتمل أجسادهم بعد، فيكثرون النظر إلى المرآة لتصبح نظرتهم في أعين الناس هاجساً.

سألت نفسي: وما هو العلاج إذًا؟ بحثت فوجدت أفضل ما كتب في هذا الموضوع ما شرحه (إيكارت تولي) في كتابه (أرض جديدة)، يقول "إن علاج التماهي بالجسد يتطلب تحويل الاهتمام من الشكل الخارجي إلى الجسد ومن أفكار حول هذا الجسد.. قوته أو ضعفه، جماله أو قبحه، إلى الإحساس بحيويته من الداخل بغض النظر عن مظهر الجسد الخارجي، ففي العمق حقل طاقة مفعم بالحياة، فالوعي بالجسد الداخلي هو طاقة الحياة فيك، وهو صورة من صور التماهي والتعلق مع اللاشكل، مع الكينونة، مع هويتك الأساسية الجوهرية الحقيقية وسيخرجك من سجن (الأنا)، وكذلك سيقوي جسدك من الداخل مثل جهاز مناعتك وقدرة جسدك على التماثل للشفاء".

استشعرت هنا دور الصلاة إذا أديت حق أدائها، فهي وعي بالذات الحقيقية والجسد الداخلي ونقطة التقاء الروح بالعقل والجسد الداخلي، أليس هذا ما فعله التابعي عروة بن الزبير عندما أجمع الأطباء على وجوب بتر ساقه لما أصابها من قرحة الآكلة أو الغرغرينا، ورفض أن يُسقى المُرقِد أو الخمر تخفيفاً للألم، ورفض أن يستعين الأطباء برجال يمسكونه خشية تحركه من شدة الألم، فقال "بل أكفيكم ذلك من نفسي، دعوني أصلّ، فإذا قمت إلى الصلاة فشأنكم وما تريدون".

وقد كان ـ رحمه الله ـ إذا قام إلى الصلاة ودخل فيها خرج من كل شيء إليها وتعلق قلبه بالله، فقام يصلي وتركوه حتى سجد، فكشفوا عن ساقه وأعملوا مباضعهم في اللحم حتى وصلوا إلى العظم، فأخذوا المنشار وأعملوه في العظم حتى بتروا ساقه وفصلوها عن جسده وهو ساجد لا يحرك ساكناً، وكان النزيف غزيراً فأحضروا الزيت المغلي وسكبوه على ساقه لإيقاف النزف فلم يحتمل حرارة الزيت فأغشي عليه وكان كبير السن، ثم أفاق يمسح العرق عن وجهه.

سألت نفسي: لماذا أرى صنفين من الناس، صنفاً عندما يذبل الجسد ويشيخ فإنك ترى العقل والروح يشعان من خلال أجسادهم فلا يزيدهم ضعف الجسد إلا شفافية وبريقاً، وكأنما تشع أرواحهم من خلال أجسادهم النحيلة الواهنة، وصنفاً آخر إذا وهنت أجسادهم وذبلت ملامحهم وصفاتهم الجسدية وهنت معها وذبلت عزيمتهم وثقتهم وإقبالهم على الدنيا، عندئذ أدركت أن الصنف الأول يدرك أن الجسد الخارجي وعاء العقل والنفس والروح، فلا يراه أكثر مما خلق من أجله فلا يتماهى معه، أي لا يُعرِّف نفسه من خلاله، أما الصنف الثاني من الناس فقد كانت وما زالت أجسادهم جزءاً من هويتهم، فهم يتعلقون بها تعلقهم بحياتهم، بل على قدر رؤيتهم لأنفسهم وتعريفهم لهويتهم من خلال أجسادهم، يصابون بالاكتئاب والانطواء وتشيخ نفوسهم وتذبل أسرع مما تشيخ أجسادهم وتذبل.

وفي مقال قادم بإذن الله سنتحدث عن طاقة الجسد الداخلي للإنسان ودورها في علاج التعلق بالجسد الخارجي.