من يقرأ تاريخ الأمم والشعوب يجد أن القوة التي أمرنا الله أن نعدها ونعتد بها ليست ضمن أولوياتنا ولا في ثقافتنا، بالرغم من القصص القرآني الذي عرض لنا مصارع الأمم وهلاكها، وبين لنا أسباب قوتها ومنعتها ونفوذها. وبما أننا في جزيرة العرب قد كان لنا الحظ بأن تكون الكعبة في جزيرتنا من قبل وبعد إبراهيم عليه السلام، غير أن تاريخنا لم يسجل لنا الفضل إلا بالإسلام الذي أخرج أهل الجزيرة فاتحين باسم الدين الذي مكنهم من تغيير موازين القوى العالمية، بعد أن غيرهم فكريا وعلميا ودينيا واجتماعيا ونفسيا.

وحتى بعد خروج العرب من جزيرتهم لم يسجل لهم من الإنجازات إلا خوض المعارك والحروب في الغزوات والفتوحات التي كانوا يغنمون منها مغانم كثيرة، أدت إلى استيطان هؤلاء العرب في تلك البلدان التي لم يخطر ببالهم يوما أن يصلوها لولا فضل الإسلام عليهم. وقد أنتجت تلك الفتوحات التغيير الكامل لأمم وشعوب تبنت الدين الوافد وما جاء معه من مقومات بناء الأنظمة التقليدية، ومع دخول العرب لتلك البلدان التي كانت متقدمة في الصناعات؛ تمكن العرب من تسخير تلك القوة والصناعة لدعم الفتوحات وتحقيق الانتصارات، ومن حسن حظ ذلك الجيل أن السلاح التقليدي يصنع محليا ولا يستورد، تقوم بصناعته فئة اختصت بالصناعات التقليدية المختلفة والتي مكنتهم من الاكتفاء الذاتي والاعتماد على أنفسهم والبقاء في مواقعهم، وكانت الجيوش تعتمد على الحيوانات في نقل الناس ومؤنها واحتياجاتها، والمعارك كانت وجها لوجه بالسيوف والرماح والنبال. ولا يختلف العتاد بشكل كبير من جيش لآخر، وقد تطورت أدوات الحرب مع الوقت حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم من تقدم وتطور وتدمير وسطوة، والسؤال: من أعطى الغرب القوة والسطوة والسيطرة ومكنهم من الإتيان بكل جديد؟ إنها الصناعة التي غيرت مجرى التاريخ، وأطلقت العقول لتبدع وتنتج وتبتكر، ففتحت المصانع التي تحقق الحلم بالقوة، ولكن بعد أن أصبحت القوة مشتركة وطنية وليست فئوية، أصبح الجميع شركاء في النهضة والتطور والبناء والاستفادة من مقدرات الأوطان وإمكاناتها، وفسحت المجال للمبدعين لقيادة المجتمع في كافة الميادين، كل حسب قدراته ومواهبه وتطلعاته وطموحاته، وفق القوانين والأنظمة التي تساوي بين الجميع وتضمن الحقوق وتحدد الواجبات. وأصبح الجميع يعملون للغاية الوطنية العليا التي تعود بالنفع على الجميع، والكل يتحمل مسؤولياته تجاه الوطن. لا معايير للكفاءة سوى القدرات والإمكانات والإنتاج والعمل، لا يهم نسب الفرد ولا معتقده، بقدر ما يهم ولاؤه لوطنه ومجتمعه. وهنا تقدمت المجتمعات الغربية التي لا يتعدى تعداد بعضها بضعة ملايين، وبها تنوع لغوي وديني وعرقي، لكنها لم تضع معايير البناء والمواطنة على قيم ضيقة، بل يكون الولاء للقانون الذي ينظم العلاقة بين الجميع. وعندما انتظمت العلاقة بين المواطنين وعرف كل دوره وحقوقه وواجباته، ووضعت الخطط والسياسات التي تحقق تلك العدالة والمساواة، تحمل الجميع المسؤولية كل حسب طاقته وإمكاناته، بفضل القانون الذي ابتكره الغرب لينظم العلاقة بين الجميع، لهذا فإن صناعة السياسة، التي تعد من أهم الصنائع، جاءت لتنظيم العلاقات وترتيب الأدوار وتحديد الوظائف ووضع العقوبات لمن يعتدي على تلك القوانين والأنظمة.

أما نحن العرب والمسلمين فقد تخاذلنا لأننا لم نتمكن من الصناعة، فهي في العرف الاجتماعي عيب وعار وشتيمة وينقص بها النسب، وعند الغرب يعلو بها الفرد والمجتمع والدولة. ولهذا فإن هناك عقدة نفسية واجتماعية لدى العرب لا يمكن أن يصنعوا أو ينتجوا، وعلى خصومهم أن تطمأن قلوبهم بأن العرب لديهم عقدة تاريخية من الصناعة بالرغم من أن الدين يحث عليها في سياقات كثيرة، ومنها الأخذ بأسباب القوة. وقد وصف الله تعالى نفسه بأن الجبال من صنعه وتنظيمه، فقال "وترى الجبال تحسبها هامدة وهي تمر مر السحاب* صنع الله الذي أتقن كل شيء". لا أعلم كيف يمكن لأمتنا أن تنجح في الاستقرار والبناء والتنمية وهي تعتمد في كل شيء على الغير. ولهذا أتفهم أسباب هذا الضعف وهذا الهوان.

الصناعة تعني القوة. أمة لا تصنع تركع، أمة تخضع لشهواتها وغرائزها وكمالياتها ولا تنتج لا تستحق أن تكون موجودة في الحياة لأنها عبء على الأمم والشعوب الأخرى، وهي تتعارض مع الغاية الرئيسية من خلق آدم وهي إعمار الأرض، فكيف يعمر وهو لا يملك أدوات العمارة ومقوماتها؟ أمة لا تأخذ بأسباب القوة والمنعة ليست أمة، حتى وإن عاشت تأكل وتشرب من منتجات الآخرين. ونتيجة ذلك خسر العرب ثرواتهم في الحروب والاستهلاك، ويخسرون شبابهم الذي بدأ يشك في كثير من القيم التي تسببت في تأخر العرب والمسلمين. الصناعة والابتكار والإبداع هي الحل لمجتمعاتنا العربية التي تعاني من التخلف والتبعية في كل شيء للدول الأخرى. سيتطور العالم في كل شيء ونحن فقط نتابع ونشاهد في مدرجات الحضارة الإنسانية وندفع رسوم الحضور ضمن دول التخلف التي لا تحسن إلا المشاهدة والتصفيق والتقليد.