وصل بنا التحليل السابق إلى أن الأنانية (غياب الآخر عن تفكير الذات) يمكن أن تنتج عن أساليب متضادة في التربية. تربية التساهل أو الدلع وكذلك تربية القسوة. تربية التساهل تحرم الطفل من أن يتعلّم لأنها تحرمه من التعرّف على نتائج أفعاله وأثرها على الآخرين. الأم أو الأب يقطع دائرة التعليم من خلال حماية الطفل من نتائج أفعاله أو من خلال تحمّل هذه النتائج نيابة عنه. أو على مستوى أعلى القيام بالفعل نيابة عنه وبالتالي الحد من تواصله مع العالم ومع الآخرين. كل هذا يجعل من الآخر بعيدا وغير مفهوم. حضور الآخر هنا حضور بعيد ومشوّش، والأهم أنه مفهوم دائما في الدائرة الذاتية. أنا أولا والآخر يحضر في سياق رغبات وحاجات الذات فقط. في المقابل تربية القسوة ترفع احتمالات يأس الطفل من الثقة في الآخرين وتقمّص أخلاق الصراع بدلا من أخلاق التعاون. الطفل الذي يتعرّض للقسوة من أقرب الناس إليه يفقد النماذج التي يمكن أن تجمعه بآخر عادل ويمكن الثقة به. لغة الاحتمال هنا مهمة لأن تربية الإنسان وتجربته معقدتان جدا ومفاجئتان لكل تحليل. تربية القسوة قد تنتج عنها قلوب رحيمة وتربية الدلع قد تنتج عنها ذوات تحب العطاء.
موضوعنا اليوم هو عن العنف والأنانية. الدعوى الأساسية هنا هي أن الأنانية سلوك عنيف. الأنانية هنا تشمل النوعين اللذين سبق أن تحدثنا عنهما "الأناني المصارع" و"الأناني المنغلق على ذاته". عنف أنانية المصارع يبدو أوضح للتحليل لكن عنف الأناني المنطوي على ذاته يحتاج إلى مزيد من التحليل. قبل هذا كله لا بد من إيضاح ماذا أقصد بالعنف أولا. لهذا الغرض سأقتبس هذا التعريف المهم للفيلسوف إيمانويل لافيناز في كتابه "الحرية الصعبة" يقول لافيناز: "العنف لا يوجد فقط في كرة بلياردو تضرب أخرى، أو في عاصفة تدمر الحقول، أو في سيّد يسيء معاملة عبده، أو في دولة شمولية تحط من قيمة شعبها، أو احتلال وإخضاع البشر في الحروب. العنف يوجد كذلك في كل فعل يقوم به الإنسان وكأنه المتصرف الوحيد، وكأن مهمة بقية البشر في الكون أن تستقبل آثار هذا السلوك، لذا فالعنف هو كل فعل نقوم به بلا تعاون". بهذا المعنى العنف هو كل فعل لا يتم فيه اعتبار وجود الآخرين. غالب سلوك الإنسان له علاقة وأثر على الآخرين. الإنسان لا يعيش في جزيرة معزولة. ولذا فالسلوك الذي نقوم به من دون أن نعتقد أن الآخر يفترض أن يكون فاعلا فيه وليس فقط مستقبلا له هو سلوك عنيف. على سبيل المثال انتظار الناس أمام آلة الصراف الآلي لإجراء عملياتهم المالية. أساس العنف هو ذلك الشعور الأناني داخلنا بأنه لا مانع لدينا من إلغاء الطابور والقفز إلى الأمام لو حانت لنا الفرصة. هذا يعني أن الآخرين لا وجود لهم في تفكيرنا إلا كعقبة أمام تحقيق أهدافنا الخاصة.
هذا هو المعنى الذي سأستخدمه للعنف في تحليلي اللاحق للعلاقة بين الأنانية والعنف. سيكون التحليل من خلال النموذجين السابقين: الأناني المصارع والأناني المنغلق على ذاته. النموذج الأول هو موضوع بقية هذا المقال. الأناني المصارع يعتقد أن ذاته تأتي أولا في كل الحسابات. "ذاتي أولا" تعني "الآخر لاحقا". في تفكير الأناني المصارع تغيب هذه الإمكانية "أنا مع الآخر". الأناني المصارع يعيش بعقلية "العالم غابة" و"إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب". هنا تختلط علينا هذه الصور بين تقرير حال العالم وبين الرغبة في استمرار تلك الحالة. المصارع يتصالح مع طبعه الصراعي لدرجة أن دعوات التعاون بدل الصراع تعتبر تهديدا له. الأناني المصارع يرتبط مستوى عنفه بمستوى علاقاته مع الآخرين وبمعدل القوة والصلاحية لديه. لكن جوهر العنف في تفكير وسلوك الأناني المصارع هو صعوبة جعل الأولوية للآخر أو جعل أولوية الآخر على مستوى أولوية الذات. هذا لا يتناقض مع قيام الأناني المصارع بسلوكيات الرحمة والعطف من فترة إلى أخرى.
الأناني المصارع قادر على القيام بذلك، ولكن فقط مع أولئك الذين لا ينافسونه أو لا يمثلون تهديدا لمرتبة الذات العليا. الرحمة والعطف هنا تكونان في خدمة الذات وتعزيز رضاها عن نفسها. الرحمة والعطف قد يتحققان من عدة منطلقات منها: الرحمة والعطف اللذان يظهران قوّة القوي وكرمه وضعف الضعيف وحاجته. المنطلق الآخر أن تتحقق الرحمة بين أطراف متساوية. أرحمك لا لأني أقوى منك ولكن لأني ضعيف مثلك وأنتظر رحمتك. المنطلق الثالث أن أرحمك لأنك حقيقة من ترحمني هنا.. ضعفك أقوى من قوتي ومسؤوليتي تجاهك سابقة لكل اختياراتي. الأناني المصارع قادر على الحالة الأولى فقط لأنها الوحيدة التي لا تهدد تراتبيته التي تضع من ذاته أولا وقبل أي شيء آخر. الحالة الأولى لا تناقض حالة الصراع في جوهرها لأنها لا تتعارض مع صورة القوي والضعيف، الغالب والمغلوب. الصورة الأولى تقدم فرصة لاستعراض القوّة والانتصار.
عنف الأناني المصارع يظهر في عجزه عن الحوار مع من حوله. هذا يعني أن من حول هذا الأناني يشعر باستمرار أن علاقته مع الأناني المصارع تحطّ من قيمته. الأناني المصارع يدعوك إلى هذه الخيارات: علاقة شكلية صورية بعيدة، علاقة تعلن فيها خضوعك، أو علاقة صراع بينك وبينه. كل هذه العلاقات غير أخلاقية. لذا ليس من الغريب أن ينتهي الأناني المصارع إلى حياة بلا أصدقاء، حياة لا يحيط به فيها إلا منتفع منه أو قلوب جريحة غلبت الرحمة فيها كل الآلام. ليس غريبا أن ينتهي الأناني المصارع بقلب واحد جريح يحيط به. قلب أمه فهي الوحيدة القادرة على أن تقول "ولكنه ابني".