شكل سقوط مدينة الموصل في يد تنظيم "داعش" في يونيو 2014 حدثا فارقا في تاريخ الشرق الأوسط لن تتوقف انعكاساته على الفترة الراهنة فقط بل ستمتد فترة طويلة من الزمن. فالشرق الأوسط ما بعد الموصل لن يعود أبدا لما كان عليه قبلها.

بات العراق رمانة ميزان المنطقة بامتياز، ففي العراق يظهر خط التغلغل الإيراني الأول والأهم وحجر زاويتهم للانطلاق نحو المنطقة والتدخل فيها، وفيه تظهر أخطاء دول الاعتدال العربي في تولي زمام المبادرة الإقليمية، وفيه يظهر تذبذب وتخبط الدول الكبرى سواء بالإهمال أو الأخطاء كما هو واضح من إدارة الولايات المتحدة لمسألة الملف العراقي قبل وبعد انسحابها، وفيه تظهر أقسى وأبشع صور الطائفية والتطرف وفشل الإدارة التي ضربت المنطقة.

لكن العراق قدم أيضا صورة مغايرة تمثلت في نموذج إقليم كردستان الذي للآن ورغم مرور ما يزيد عن 10 سنوات على سقوط نظام صدام حسين، لا يزال مجهولا بالنسبة لكثير من أبناء المنطقة.

لقد نجح الأكراد العراقيون في تحويل إقليمهم إلى واحة في صحراء مضطربة، وهو نجاح مرده اجتهاد حقيقي من الأكراد في سبيل قضيتهم، ووعي عال بتعقيد السياسة الإقليمية والدولية تعاملوا معه بواقعية من يريد تحقيق نتائج لا مثالية من يسعى خلف الأحلام.

وبرز نجاح النموذج الكردي بشكل أكبر بعد سقوط الموصل في يد "داعش". لكن السعي الكردي إلى إنشاء دولتهم لم يتوقف وعلى الأغلب سيزيد مع الوقت، فهل يصب استقلال محتمل لكردستان في مصلحتنا أم لا؟

أكراد العراق بما حصلوا عليه من مكاسب الحكم الذاتي منذ سنوات حظر الطيران عقب حرب الخليج الأولى يملكون اليوم مقومات الاستقلال، وقد أعلن رئيس الإقليم مسعود بارزاني مرات عدة أن سعي الأكراد نحو الاستقلال لم يتوقف، وأنه ماض في الاستفتاء على هذا الأمر.

لقد فرض ظهور "داعش" ظروفا إقليمية جديدة غيرت الواقع على الأرض، فتركيا التي سبق لها في 2005 التهديد بعمل عسكري إذا احتل الأكراد مدينة كركوك هي اليوم أحد الداعمين لهم في سيطرتهم على المدينة وحمايتهم للتركمان فيها من تهديد "داعش"، ورغم أن المادة 140 من الدستور العراقي تنص على عمل استفتاء لتحديد هوية أو مستقبل مدينة كركوك، فإن واقع الأمر على الأرض اليوم هو أن مستقبل المدينة تحدد بالتبعية لإقليم كردستان.

بحسب المحلل السياسي التركي سونر جاغابتاي: إذا أعلن أكراد العراق استقلالهم، فإن أنقرة قد تكون أول عاصمة تعترف بهم، مضيفا أنه من سخرية القدر أننا قد نرى مع الوقت تحول كردستان إلى الحليف الوحيد لتركيا في المنطقة.

العداء التاريخي بين الأكراد والأتراك جسرت هوته الظروف الإقليمية وبراجماتية القيادة الكردية في العراق التي استقرأت وضعها جيدا وتجاوزت الأيدولوجيات المثالية فتقاربت مع تركيا دون تردد.

إن أكراد العراق وسورية يحمون اليوم 90? من حدود تركيا مع الدولتين، ويملك أكراد العراق خط تماس مع "داعش" يبلغ حوالى ألف كيلومتر، ما يجعلهم خط الدفاع الأول أمام هذا التنظيم الإرهابي.

لقد فرضت الجغرافيا السياسية على تركيا إضافة إلى رغباتها الإقليمية أن تلعب دورا في كردستان، تمثل في العلاقات الاقتصادية، إذ أصبحت تركيا خط الحياة للأكراد، ومعبر نفطها إلى الخارج ومصدر دخول منتجات العالم إليهم، وبلغ حجم التجارة بينهما حوالى 8 مليارات دولار سنويا، يعزز هذا الأمر عدد من المشاريع مثل مشروع مصفاة STAR قرب مدينة إزمير بتركيا البالغ قيمتها 5,6 مليارات دولار بهدف تكرير النفط الكردي، إضافة إلى إمكان نقل نفطهم عبر خط أنابيب TANAP الذي سيحمل الغاز الأذربيجاني إلى أوروبا عبر تركيا.

للنفط أهمية كبرى، فاقتصاد كردستان العراق ريعي (rentier)، ولا يملك الأكراد مقومات للاستقلال أو الحفاظ على استقرارهم الداخلي دون ضمان مورد كاف لحوالى 700 ألف موظف حكومي، إضافة إلى 200 ألف جندي، عدا حوالى مليون ونصف لاجئ ونازح من سورية وداخل العراق توجهوا إلى كردستان بحثا عن الأمن.

ورغم أن الدستور العراقي ينص على حصول كردستان على 17% من ميزانية العراق، أي ما يعادل تقريبا 1,2 مليار دولار شهريا، إلا أن هذه الحصة أقل مما يمكن للأكراد الحصول عليه في حال قيامهم بضم مدينة كركوك الغنية بالنفط إلى إقليمهم والانفصال عن حكومة بغداد المركزية.

دخل كركوك في 2013 كان حوالى 6 مليارات دولار من تصدير 180 ألف برميل فقط، وإذا استطاع الأكراد بضم كركوك وتطوير إنتاجهم النفطي ليصل إلى مليون برميل يوميا، فإن هذا سيعود عليهم بدخل يعادل ثلاثة أضعاف حصة ما يحصلون عليه من بغداد.

كردستان العراق بها كل مقومات الدولة المستقلة باستثناء إعلان ذلك، وهذا هو واقع الأمور على الأرض، لكن ثمن هذا الإعلان كبير، وكذلك عوائده، سواء للأكراد أو غيرهم من دول المنطقة، وبالأخص تركيا وإيران اللتين تواجهان مطالبات انفصال من الأقليات الكردية لديها.

ولكن ما العوائد التي ربما تعود على المملكة من مثل هذا الأمر على افتراض حدوثه، خاصة أن واقع المنطقة يتغير بالفعل ويتشكل من جديد؟

من منطلق جيو- سياسي، فإن كردستان العراق تمثل حاجزا طبيعيا وسياسيا أمام توسع إيران وتركيا في المنطقة، إذا أحسن ربط المصالح معها على أسس مشتركة، بل يمكن لهذه الدولة إذا استقلت بالفعل أن تمثل شوكة في خاصرة إيران، إذ يمتد النفوذ الكردي إلى داخل إيران في شكل تجمع كردي قوي ومعارض وطامح إلى الاستقلال.

من جهة أخرى، يمكن لمثل هذه الدولة إذا استقلت، وبما لها من كفاءة أمنية وإدارية مقابل محيطها المضطرب، أن تمثل نقطة ارتكاز مهمة لإعادة الدور الحيوي للمملكة في العراق وسورية سواء على صعيد مواجهة الإرهاب أو حتى سياسيا من خلال لعب دور إقليمي.

كعب أخيل بالنسبة لأكراد العراق هو وضعهم المالي المتأزم، فاقتصاد كردستان العراق يعاني عجز الموازنة وتراكم الديون سواء لشركات النفط أو البنوك الإقليمية "تجاوزت ديونهم حوالى 5 مليارات دولار أغلبها لبنوك تركية ولبنانية"، وهذا الأمر يفتح للمملكة نافذة لإعادة التموضع سياسيا هناك، من خلال فتح باب الدعم المالي لحكومة كردستان العراق كوسيلة لبناء علاقة مستدامة قائمة على المصالح المشتركة.

لعل من المبكر الإجابة عن سؤال: هل يصب استقلال كردستان في مصلحة المملكة أم لا؟ ولكن ليس من المبكر النظر في أهمية ترسيخ العلاقة مع هذا الإقليم الذي بات على أبواب الاستقلال، إن لم يكن بإرادتنا اليوم، فسيكون دون إرادتنا غدا.