إذا ما أمعنا النظر فيما حدث منذ عقود طويلة لأمتنا العربية وما آل إليه حالها.. وجدنا أنها أشبه بجسد رجل أنهك المرض قلبه من كثرة ما أجري له من عمليات قسطرة، فأصبح يحتاج إلى تركيب أكثر من دعامة، حتى يستطيع أن يعمل قلبه من جديد، لكنه قد دخل في أكثر من غيبوبة وتراكمت فوق بعضها بعضا عبر العصور، وتداخلت في بعضها بعضا بحيث يصعب فك الارتباط بينها، كما أنه يعاني من نوع غريب من الانفصام الزمني في الشخصية، لا يعاني منه أي إنسان آخر في أي منطقة أخرى سوى المنطقة العربية، فنجد عربا كثيرين يعيشون بأجسادهم في الحاضر وعقولهم أسيرة العيش في الماضي، وكأنهم يتحدون ويتجاهلون القانون الحتمي، والذي يؤكد أن الإنسان الذي يعجز عن أن يكون ابن عصره، لا يمكن أن يكون ابن أي عصر آخر.

وتلك الغيبوبة والانفصام الزمني الذي نعيشه ما هما إلا نتيجة عوامل مترسبة في الوعي أو اللاوعي لعقلنا من سنوات القهر والاستعباد والاستبداد التي مرت بنا خلال سنوات الاحتلال، فلم تجد عقولنا سوى الهروب إلى الماضي البعيد، ذلك الماضي الذي سادت فيه القيم الدينية والأخلاقية.

ولكن هروبنا إلى هذا الماضي البعيد لا يحقق وجوده في العصر الذي نعيشه، فكيف تعيش عقولنا في زمن ماض، ونعيش بأجسادنا في مكان آخر لاحق على هذا الزمن، فنحن بذلك نكون ضد الحتمية الزمنية، وهي أن الزمن في مسيرته السرمدية لا يمكن أن يرجع إلى الوراء، أو يتوقف ولو للحظة، وأن الزمان والمكان وجهان لعملة واحدة ولا ينفصلان.

ومن هنا وقع العقل العربي في غيبوبته الأولى "غيبوبة العقل" صريعا في الفجوة العميقة بين الضغوط الواقعية والمتزايدة عليه وبين الضرورات الفكرية التي يستحيل الهروب منها، وهي الغيبوبة الأهم لأنها أساس ومصدر باقي أنواع الغيبوبة الأخرى التي تعرضنا لها بعد ذلك.

وإذا ما وجهنا أنظارنا إلى بقعة من أرضنا العربية اغتصبت ونحن في غفلة عنها وفي ظل غيبوبتنا وجدنا من يفترض أن يكونوا أبناء عمومتنا يقظين كل اليقظة ولم يغفل لهم جفن منذ أن شرعوا في بناء حلمهم وكيانهم بيننا وحتى الآن.

 فكيف أصبحوا بكل تلك اليقظة واتسعت الفجوة بين غيبوبتنا ويقظتهم، حتى امتلكوا زمام الأمور بأيديهم يوجهونها لمصالحهم وخططهم الاستراتيجية كيفما شاءوا؟

فعلى الرغم من أننا الأكثر عددا، لكننا أصبحنا مترهلين راكدين، لا نقدر على الحركة السريعة والنشاط الزائد، فقلوبنا مثقلة بالدعامات التي أدخلت عليها، فقيدت أنشطتنا وقللت من حركتنا فأدخلتنا في غيبوبة تلو الأخرى، أما هم، وهم الأقل عددا أصبحوا الأنشط حركة والأكثر فعالية وتأثيرا في كل المجالات، فهم لم تصبهم لعنة الانفصال الزمني التي أصابتنا، فهم يعيشون عصرهم بعقولهم وأجسادهم في آن واحد، امتلكوا سلاح العقل فعلموا مدى قوته وخطورته، وأن الاستثمار فيه هو الذي على أساسه تنجح باقي الاستثمارات، وعن طريقه يمتلكون العالم وينتصرون عليه مهما كانت أعدادهم قليلة.

أما نحن فقد أهملنا تلك الأمانة التي أبى غيرنا من المخلوقات أن يحملها، وحملناها ولم نوفها حقها، وتركناها عرضة لعوامل التعرية، تتحلل وتتآكل حتى دخلنا غيبوبتنا الأولى فتركنا عقولنا فريسة لأي قوى أخرى تسيطر عليها، فتعيد تشكيلنا كما يحلو لها، ويخدم أغراضها وأهدافها سواء العاجلة منها أو الآجلة، فأصبحت عقولنا وقلوبنا مفتوحة لمشرط الجراح يجرب فيها الدعامات التي تناسبها.