عادة ما تطلق مصطلحات على الظواهر الاجتماعية السلبية منها والإيجابية؛ من أجل تحديدها وحصرها والتعرف على أسبابها ومسبباتها، لمحاولة القضاء أو الحد منها إن كانت سلبية، وتشجيعها وتعزيزها والاستفادة منها إن كانت إيجابية. وعلى ذلك فمن الضروري في معالجة أي مشكلة اجتماعية حصرها داخل مصطلح يعبر عنها، ليتم تحديدها والتعرف عليها من خلاله. ولذلك فأول شرط لمعاينة ومعالجة الظاهرة الاجتماعية وطرحها للنقاش، هو دقة اختيار المصطلح لها، ومطابقته لواقعها الاجتماعي الذي تعبر عنه.
من الممكن تداول مصطلح اجتماعي يعبر عن ظاهرة اجتماعية سلبية، وبطريقة جادة، ولكن المشكلة تظل قائمة إن لم نقل متفاقمة، بسبب عدم دقة المصطلح المعنون لها. وذلك لكون الأسباب الاجتماعية الحقيقية التي تدعمه وتزيد من حدته، ما تزال خارج دائرة النقاش، وذلك لعدم تعبير المصطلح عن عين المشكلة. وهنالك مصطلح اجتماعي آخر، يعبر عن ظاهرة اجتماعية سلبية بدقة، كما هي ويتناولها بطريقة جادة، ويتم التوصل لحلها أو على الأقل الحد من تفاقمها. إذاً من المهم أن يتم اختيار مصطلحات "مسميات"، الظواهر الاجتماعية بعناية منطقية ودقة علمية، لنربطها بها ونتعامل معها على أساسه.
فهنالك ظواهر اجتماعية تطرح للنقاش، تحت مسميات ثقافية وأخرى تطرح للنقاش تحت مسميات علمية. فالظواهر الاجتماعية التي يتم إطلاق مسميات ثقافية عليها؛ عادة ما تكون عصية على الحل. وأما الظواهر التي تطرح تحت مسميات علمية، فهي التي يتم حلها أو على الأقل الحد من منها. وذلك لكون المصطلحات الثقافية، هي كما الثقافة نفسها خاضعة للنسبية، أي فضفاضة ومراوغة وغير دقيقة ولا تفضي إلى مدلول محدد وثابت، أو تصدق على كل الأمكنة والأزمنة، حتى المتقاربة منها. فعندما يتم التحدث عن مشكلة اجتماعية، قد لا تكون موجودة أو موجودة بسبب تغيرات وتطورات اقتصادية وثقافية، وتسميتها بمصطلح ثقافي كـ" ظاهرة العنوسة"؛ فهنا لا سبيل لحلها، وإنما محاولة الاستفادة منها واستغلالها، لصالح من ينفخ فيها ويغذيها ليتغذى عليها. حيث تحديد سن زواج الفتيات، يختلف من مكان لآخر ومن زمان لآخر، أي ليس له قاعدة محددة، كسن (18)، لمنح الشخص رخصة قيادة سيارة. ففي زمان كان يعتبر سن زواج الفتاة، هو بين الثالثة عشرة والخامسة عشرة، وأتى زمان بعده ليحدده بين السادسة عشرة والثامنة عشرة، وتلاه آخر حدده بين العشرين والرابعة والعشرين، وتمدد حتى وصل إلى السادس والثامن والعشرين. وهكذا يتغير السن المحدد لزواج الفتاة حسب تقدم الزمن وتطوره، وحسب تقدم المكان وتمدنه.
حتى وصل الأمر الآن، إلى التخلي عن السن العمري للفتاة كمحدد لزواجها، وتحديده بالتخرج من الجامعة والحصول على وظيفة. إذاً فتأخر زواج الفتاة، هو خيار اختارته الفتاة بنفسها ولنفسها، وذلك لضمان محافظتها على آدميتها وهو ضمان مستقبل كسبها المعيشي المستقل. أي أن قرار الفتيات في تأنيهن في الزواج، هو ليس بمشكلة بالنسبة لهن، وإنما هو مشكلة الآخر، الذي هو الذكر. والذي فقد ميزة اجتماعية كان يتمتع بها طيلة آلاف السنين، وهي ميزة "البيوت مليانة بنات" تنتظره للستر عليهن. وما عليه فقط، إلا أن "يطب" ويتخير ما طاب له من النساء الواحدة والثانية وأكثر من الأبكار والثيبات.
وقد يكون لمصطلح العنوسة بعض المصداقية، لو أنه شمل الشاب كذلك، وحدد له سن زواج معينة، وأطلق على من تجاوزها بالعانس. ولكن وباستحياء، أطلق فقط على الرجل الذي تجاوز عمره الأربعين بالعانس، وذلك عقاب له، لخروجه عن مبدأ مهم من مبادئ الثقافة الذكورية، وهو التقاعس عن الحظوة بالأنثى والاستمتاع بها.
إذاً فمصطلح "العنوسة" هو مصطلح ثقافي ذكوري غير دقيق أو محدد، والمراد من طرحه ومناقشته والتهويل من خطورته، هو نوع من الضغط الذكوري لإعادة الهيمنة على الفتيات، والعودة بهن إلى ما كانت عليه أمهاتهن وجداتهن. حيث ذكرت صحيفة عكاظ في دراسة ذكورية لها أن "حجم كارثة العنوسة التي تنتظرنا بعد خمس سنوات والمتمثلة في ارتفاع معدل العنوسة في المجتمع من مليون ونصف إلى أربعة ملايين!" والأسئلة التي تطرح نفسها على من عمل هذه الدراسة، هي كيف قام بتحديد سن العنوسة؟ وعلى أي أساس؟ وكيف تم إحصاؤها والتنبؤ بمستقبلها؟!
أنا متأكد أن من عمل الدراسة، ليس لديه إجابات شافية أو وافية على الأسئلة أعلاه؛ ولكني جداً متأكد بأن هنالك حملة ذكورية منظمة لإرباك الفتيات وإفقادهن توازنهن، وإعادة الهيمنة الذكورية عليهن، تشن بواسطة وسائل إعلام رسمية وغير رسمية. حيث أطلق مجموعة من الشباب السعوديين مع بداية الإجازة الصيفية حملة تحت عنوان "نبيها أربع" للمطالبة بتعدد الزوجات والتشجيع عليه، على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك". وذكر مطلقو الحملة "الذكورية" أنها تهدف لتصحيح النظرة الخاطئة المنتشرة في المجتمع السعودي تجاه تعدد الزوجات! وهنا مغالطة واضحة، من هؤلاء الذكور الصغار الذين أتقنوا اللعبة وأخذوا يمارسونها بمهارة الكبار، وهي افتراض أن هنالك نظرة خاطئة منتشرة في المجتمع السعودي تجاه تعدد الزوجات.
وذكروا أن سبب حملتهم هي تحفيز الشباب على التعدد للقضاء على العنوسة، ومحاربة غلاء المهور! وتقليل تكاليف حفلات الزفاف الباهظة. أي "يبونها أربع ورخيصة بعد!"، وكان الأجدى تسمية حملتهم هذه بـ" حنا فحول وطفارى". وقد أعلنوا عن السبب الرئيسي لحملتهم من غير أن يشعروا، حيث ذكر الفحول الصغار، أن من أهم دوافع حملتهم، هو إقبال بعض السعوديات على الزواج من غير السعوديين، بغرض الستر. أي أن الفحولة لدى هؤلاء الصغار قد تم غزوها وضربها في عقر دارها، مما أهان فروسيتهم الفحولية التي لم يسعفهم الوقت لممارستها والتنفيس عنها، كمن سبقوهم من فحول الماضي التليد.
وكما ذكرت أعلاه، أن الحملات الذكورية الكبيرة منها والصغيرة والتي تطلق باسم، القضاء على العنوسة؛ هي حملات ذكورية تعسفية تشن على فتياتنا لإرباكهن ليفقدن توازنهن، وينصعن لرغبات الهيمنة الذكورية، وذلك بتسليم مصيرهن لهم، بحجة عدم فوات قطار الزواج عليهن. وقد نجحت هذه الحملات بأداء مهمتها، بدرجة أو أخرى؛ ولكن ما يزال هنالك من الفتيات الصامدات، الواعيات لمكائد مثل هذه الحملات الذكورية للهيمنة عليهن، حيث قالت إحداهن وهي ترد على بعض الحملات الذكورية للقضاء على ما يسمى بلغة الفحولة، بظاهرة "العنوسة الخطيرة": لا ينقصنا مطلقات ومريضات نفسيا، بسبب التصرفات الصبيانية للأزواج ... وأكدت أنها تفضل أن يفوتها قطار الزواج على أن يدهسها، ويرميها أشلاء إنسانة تحت قضبانه.
إذاً فهذا هو منطق المرأة الجديدة، والتي قررت، وبلا أسف، أن تغادر عصر الحريم القديم، وبلا رجعة. فعلى الذكور أن يستعدوا في التعامل مع مثل هذا المنطق القادم، والقادم أكثر.
وبمثل هذا المنطق، منطق المرأة الجديدة، يتم التصدي للحملات الثقافية الذكورية وفضحها، ليس فقط لإنقاذ الفتيات أنفسهن من سعير جحيم الكارثة الفحولية، ولكن حتى لإنقاذ الذكور صغارهم قبل كبارهم منها، وذلك بإعادة التوازن لهم، وللمجتمع بشكل عام نسائه ورجاله.