شهد مقهى متواضع بشارع القصر العيني وسط القاهرة محطات بداية مسيرة معظم نجوم الفضائيات والصحافة المصرية والعربية أيضا، ولا شك أنهم اجتهدوا لينتقلوا من مرحلة طلب حسابات المشروبات والشيشة بحساب شهري يتزامن وتقاضي رواتب مؤسسات أبرزها "روزاليوسف" المجاورة للمقهى، بالإضافة إلى الصحف الخاصة التي انطلقت خلال تسعينات القرن الماضي، ليصلوا إلى مرحلة نجومية الفضائيات التي تحولت معها حياتهم بأسرها ماديا ومعنويا، فهجروا المقهى لأماكن أخرى كالنوادي النخبوية المخصصة للمشاهير وكبار رجال الأعمال الذين أسسوها كملتقى للفنانين والإعلاميين والساسة والمسؤولين الأمنيين.

صادفت زميلا قديما كان رفيق المقهى فأبديت دهشتي لمهاجمته السعودية والتحالف الذي يضم مصر، واقتضى الأمر مقدمة حاسمة أكدت فيها أنني لا أسعى إلى إقناعه بتغيير قناعاته، لكني فقط طالبته بالتزام "الأصول المهنية"، فليس عدلا أن يتحدث ساعات يهاجم خلالها أبرز حلفاء مصر، دون أن يمنح الرأي الآخر الفرصة للرد، ولنترك الحكم للمشاهد ليبلور قناعته، لكنني كنت كمن يؤذن بمالطا، فزميلنا "بارون الفضائيات" يتجاهل "رفاق البدايات" حتى بمجرد الرد على اتصالاتهم والواجبات الاجتماعية كالوفاة والمرض والزواج وغيرها، فقاطعه رفاقه القدامى احتراما لأنفسهم، ولعلمهم بانتهازيته التي دفعته لإبرام صفقة شهيرة مع "عرّاب الإخوان" خيرت الشاطر بصحيفة كان يرأس تحريرها، ليشتروا مئات آلاف النسخ مقابل دعمهم، وشن حملات منهجية ضد نظام مبارك، لكنه ظل محتفظا بمساحة للتواصل بأجهزة وثقت علاقاته بين "الجماعة والنظام" واطلعت عليها بانتظار التوقيت المناسب لكشفها، فهذه "مرحلة مفصلية" تقتضي تحري الحكمة.

يدير "صاحبنا" برامجه بحسابات معقدة، فيستضيف "محترفي الابتزاز" مستبعدا الموالين للتحالف "المصري السعودي" وحين ذكرته بأن هذه الدول "شقيقة وشريكة" بمشروع سياسي واقتصادي، وتخوض "معركة وجودية"، وبالتالي فاتهامها برعاية الإرهاب تضليل للمشاهدين، واتهام لمصر الجديدة بدعم الإرهاب لأنها شريكتها.

وكعادته بادر لاتهامي، فطالبته بتبرير تقديمه برامج بفضائيات دولة يعتبرها "منبع الإرهاب"، وكيف يسمح ضميره لتخصيص الشاشة المصرية الخاصة، ومعه آخرون لمهاجمة السعودية؟ وبعدها يقدم برنامجا بفضائية يمتلكها رجال أعمال موالون للمملكة التي يهاجمها ويحرض ضدها، ويتقاضى منها الملايين.

تحولت مناقشتنا "الافتراضية" إلى حلبة مصارعة جمعت صحفيين وإعلاميين، وأكدت أن فضائيات المملكة التي يهاجمها منحته عدة فرص لتقديم برامجه، بينما تقتصر مساهمتي بمجرد استضافتي مرات نادرة، دون مقابل، بينما يتقاضي "صاحبنا" الملايين، ولو اتسق مع ذاته واستيقظ ضميره لرفضها.

لماذا تدافع عن "رعاة الإرهاب" رغم مواقفك المناوئة لجماعات التأسلم السياسي؟ سألني "صاحبنا" فاكتفيت بابتسامة ساخرة اختزلت مرارات صحفيين وإعلاميين سعوديين يستنكرون مهاجمة بعض الإعلاميين المصريين للسعودية، ويصطدمون بعلاقات استراتيجية تربط مصر ودول مجلس التعاون، التي ساندت مسار 30 يونيو سياسيا واقتصاديا، وتخوض معركة تمتزج فيها دماء المصريين وحلفائهم ضد الحوثيين الذين وصفهم "صاحبنا" بأنهم "ليسو إرهابيين بل جزء من شعب اليمن"، متبنيا موقف الإخوان وانحدرت الملاسنات للمهاترات، محققا أهداف الإخوان باختلاق أزمة مصرية - سعودية بالمظاهرات، والسعي إلى إفساد العلاقات بحملات إعلامية يكتنف دوافعها الغموض.

بالفضائية ذاتها التي انطلقت عبرها الأراجيف لمذيع آخر يسفه عملية "عاصفة الحزم" ويعتبر تسميتها "غير إبداعية لا تعكس الواقع"، ليتدهور الأمر لظاهرة "الردح البلدي" عندما توقع "مذيع بهلوان" يراه غالبية المصريين "ظاهرة كوميدية" فشل محاربة الحوثيين، مؤكدا أنها "مجرد زعابيب"، حسب تعبيره.

بالجانب الآخر غضب زملاء سعوديون لإحساسهم بالصدمة حيال الحملة الإعلامية المناوئة للمملكة بأول اختبار للمواقف، خاصة أن "إعلام الحرب" يقتضي التناغم، لكن ولأسباب غامضة سارت الأمور بالاتجاه الخاطئ، رغم مناشدات الرئيس السيسي لوسائل الإعلام بمراعاة المصالح القومية، وكانت آخرها إعلانه صراحة أن مصر تعتبر أمن دول الخليج "خطا أحمر لا يتجزأ من الأمن القومي المصري، وستقوم بحمايته إذا تطلب الأمر، وأنه يتحرك بإطار مدروس بعناية، وأن الخطاب الإعلامي يشكل وعي الناس ويتناغم مع الدولة، وأن الطروحات السلبية التي يمارسها البعض تهدر الالتزام بالمسؤولية الوطنية والقواعد المهنية.

ثمة حقيقة يتجاهلها "بارونات الإعلام" بأن قطاعات مصرية واسعة توجه انتقادات قاسية لأدائهم، خاصة برامج (التوك شو) التي تتسم بالسطحية والإغراق بالمحلية على حساب الشأنين الإقليمي والدولي، وتستضيف شخصيات بعينها تتقافز عبر الشاشات، لتتجلى "مؤسسة الشّلة" التي تتحكم بأجندة الحوار، وتوجيه الرأي العام لدرجة أصبح الإعلاميون يستضيفون بعضهم البعض، ويستمر الإلحاح على شخصيات ليستشعر المتلقي أن الأمر متعمد، وتحركه المصالح المتبادلة، رغم الإفلاس وإعادة تدوير المخلفات الإعلامية بجهل، أو تجاهل لذائقة الأجيال الشابة، والمسؤولية القومية بظروف بالغة الحرج.