في عام 1832 صدر كتاب "في الحرب" باللغة الألمانية، (Vom Kriege)، للجنرال البروسي كارل فون كلوزفيتس الذي ولد سنة 1780 في ماغدبورغ الألمانية وتوفي سنة 1832 في بريسلاو، حيث توفي قبل صدور كتابه بسنة. تناول كلوزفيس في كتابه فسلفة ومنطق الحرب ومكانة الحرب بين السياسة والديبلوماسية، ثم فصل في بقية الكتاب كيفية تطبيق مبادئ وأسس الحرب في الميادين وجبهات القتال، استراتيجيا وتكتيكيا وعملياتيا، وحدد كيفية الوصول إلى النصر العسكري. وكون الكتاب يعتبر أول كتاب يجمع بين دفتيه كل المعلومات التي يحتاج إليها الجنرالات أو السياسيون عن الحرب، فقد ترك الكتاب أثرا كبيرا وعميقا في عملية تدريب ورسم خطط الجيوش الأوروبية وطريقة أدائها في الحروب، منذ تاريخ صدور الكتاب حتى نهاية الحرب العالمية الأولى 1918. حيث أصبح كتاب كلوزفيتس في الحرب يدرس في الكليات العسكرية الأوروبية وكليات قيادات أركانها.

لقد عرف كلوزفيتس الحرب بأنها تكملة للعمل السياسي والديبلوماسي، عندما يصلان إلى حائط مسدود، حينها تستدعى الحرب للوصول إلى الأهداف التي عجزت السياسة والديبلوماسية عن الوصول إليها. وعلى أساس تعريف كلوزفيتس للحرب بنى عليه تعريف النصر العسكري، وهو كما أورده في كتابه تدمير جيش العدو وفرض الإرادة السياسية عليه. وعلى أساس تعريف كلوزفيتس للحرب توصل إلى تعريف النصر العسكري، ليتحرك في سياق متوازٍ، ويعرف الاستراتيجية والتكتيك كذلك على أنه أقصر وأقوى طريقة لتدمير جيش العدو عن طريق الصدام الجبهوي، في جبهات وميادين القتال. وسمى هذه الاستراتيجية بـ"الاقتراب المباشر" "Direct Approach".

هذا باختصار أهم النقاط التي توصل إليها الجنرال كلوزفيتس في نظريته الاقتراب المباشر التي وردت في كتابه في الحرب، وهذا ما يهمنا الآن منها. حيث ذكر كلوزفيتس أن دور النظرية هو "ترتيب الأفكار والمفاهيم، المتشابكة والغامضة، وإظهار العلاقات المتبادلة للأشياء وإبراز بعض المبادئ أو القواعد التي تنتج عنها. مع فصل القضايا المهمة عن الثانوية، وإلقاء ضوء كاشف ينير الفهم الصحيح ويساعد على اقتلاع المفاهيم الخاطئة وتبديد ضباب الأفكار المسبقة والغامضة". وقد أكد أن "النظرية لا تعد منهجا محددا لشكل الحرب، ولا تقدم قوانين لحل جميع المشكلات أو كل الحالات والاحتمالات وإن لكل عصر أشكاله الخاصة في الحرب ونظريته أو نظرياته الخاصة".

في الفترة نفسها من التاريخ الأوروبي ظهر مفكر عسكري واستراتيجي آخر، هو الجنرال أنطوان هنري جوميني، المولود سنة 1779، أي قبل كلوزفيتس بسنة، في مقاطعة فود السويسرية، وتوفي عام 1869 عن عمر ناهز التسعين عاما. وخلفيته العسكرية تختلف كثيرا عن خلفية كلوزفيتس، حيث عمل في جيوش عدة، أوروبية وخاض وقاد وحدات كبيرة في حروب عدة داخل أوروبا. والجنرال جوميني متمكن من دراسة التاريخ العسكري وبتمعن، حيث شرح نظريته العسكرية التي تضاد نظرية كلوزفيتس في كتابه باللغة الفرنسية "دراسة حول العمليات الحربية الكبرى"Treatise on Grand Military: Operations".

مع كون جوميني يشاطر كلوزفيتس في تعريفه للحرب، وهو الوصول إلى الأهداف السياسية عن طريق الحرب، حين تعجز الديبلوماسية عن تحقيق ذلك، فهو يختلف عنه بتعريف مفهوم النصر العسكري، والمتمثل في الطريقة الأمثل لفرض الإرادة على العدو، وهي تدمير أو قتل روح المقاومة لدى العدو، وليس عن طريق تدمير جيشه، وفرض الإرادة عليه. وعلى هذا الأساس لتعريف النصر توصل جوميني إلى نظريته العسكرية وهي "الاقتراب غير المباشر"، (Approach Indirect). وعلى أساس الاختلاف بين جوميني وكلوزفيتس في تعريف النصر العسكري تحدد لدى كل منهما النظرية المثلى التي ترسم بموجبها الخطط الاستراتيجية والتكتيكية وعليه أسلوب وطريقة القتال في الجبهات، للوصول إلى النصر وفرض الإرادة على العدو بالطريقة المطلوبة. حيث إن جوميني توصل إلى نظرية استراتيجية الاقتراب غير المباشر، أي عدم مجابهة العدو عن طريق صدام جبهوي مباشر، وإنما عن طريق الالتفافات الجانبية والإحاطات الخلفية إن أمكن. وعلى هذا الأساس وصفه الكاتب والمؤرخ جون شاي بأنه يعتبر وبحق مؤسس الاستراتيجية الحديثة. وكذلك استوحى المفكر الاستراتيجي البريطاني ليدل هارت نظريته "الاقتراب غير المباشر" على نظرية جوميني وروج لها، مع ذمه المبالغ به لكلوزفيتس، ونظريته "الاقتراب المباشر" وحملها ما لا تحتمل.

وبما أن معظم القادة العسكريين الأوروبيين في بداية القرن العشرين كانوا تلامذة مخلصين لفكر كلوزفيتس، فقد تبنوا مفهوم قتل إرادة القتال عند الخصم، عن طريق تدمير جيشه، والذي لا يتأتى إلا عن طريق استراتيجية الاقتراب المباشر، المعتمد على الهجوم الجبهوي على جيش الخصم لتدميره والقضاء عليه، وهذا ما حدث بالفعل في إدارتهم للحرب العالمية الأولى (14- 1918). ومع تطور الأسلحة الدفاعية آنذاك حصلت مجازر متبادلة بين الجيوش المتقاتلة، مما أدى إلى جمود الجبهات وعدم تحركها.

وبعد انتهاء الحرب ظهر بعض القادة العسكريين الميدانيين الشباب، مثل العقيد الفرنسي ديجول، والألماني رومل، والبريطاني فولر، والسوفيتي زوكوف، والذين بدورهم انتقدوا وبشراسة إدارة جنرالاتهم العجائز للحرب، وتبنوا مفهوم وفكر جوميني في الحرب وإدارتها، حيث أكدوا أهمية الهجوم غير المباشر، وإن هذه الاستراتيجية هي الكفيلة بشل إرادة الخصم على القتال، في ظل ظهور أسلحة سريعة ومدمرة وفتاكة، مثل الطائرة والدبابة والمدفعية الثقيلة والكثافة الهائلة في زخ النيران.

وبما أن القادة الكبار لم يتغيروا كثيرا في كل من فرنسا وبريطانيا، وتغيروا في ألمانيا، بسبب تحجيم جيشها وتسريح قادته العجائز، والاكتفاء بجيش نخبوي صغير يقوده قادة شباب، فقد طبقوا لأول مرة استراتيجية الحرب الخاطفة (blitzkrieg)، للوصول إلى هدف شل إرادة القتال عند الخصم، بدون صدام جبهوي مباشر معه، وحققوا في ذلك نجاحات وانتصارات سريعة، مبهرة وكاسحة على جيوش الحلفاء في بداية الحرب العالمية الثانية، (39- 1940). مما اضطر الحلفاء لتبني هذا الأسلوب في الحرب، والذي أدى إلى تحرك الجبهات وتبادل الانتصارات.

النظريتان أعلاه تنطبقان على الحروب التقليدية بشكل عام، أي أن يكون هنالك جيوش تتقاتل على جبهات محددة ومعلومة، لذلك تنطبق عليها مفاهيم الحرب التقليدية. ولكن عندما لا تكون هنالك جبهات قتال واضحة ومحددة تتحول الحرب إلى حرب غير تقليدية، لا يمكن التنبؤ بنتائجها بسهولة، ولا التنبؤ بمدتها، عندها يكون من لديه النفس الأطول ويتحمل الخسائر أكثر، هو المنتصر.