أذكر من ضمن ما أذكر عن "المهدي" الذي ظل يظهر أمامي بلا انقطاع، أنه حضر بقوة في حادثة "جهيمان" ثم خالف كل التوقعات واختفى. حضر مرة أخرى بعدها أثناء الجهاد الأفغاني ثم خالف التوقعات واختفى أيضا!
بعدها أطل على حادثة الخليج إطلالة خجولة ثم اختفى، ليعود بعدها وبقوة أثناء وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وأيضا خالف التوقعات ولم يظهر، ومؤخرا حضر في هذا الربيع العربي وإلى الآن لم يحسم أمره!
أذكر أن شيخا فاضلا أخذ يُقسِم بأن المهدي موجود الآن في فلسطين، تحيط به ثلة من الأخيار لحمايته إلى أن يأذن الله له بالظهور!
أذكر أن شيعة العراق صوروا المهدي في مقطع فيديو بينما هو يمشي في مدينة النجف! أذكر أنهم قالوا عن "صدام" بأنه السفياني. لكنه مات قبل أن يكمل الدور!
أذكر أنهم قالوا: إن "المهدي" سيظهر فور وفاة أحد الزعماء العرب، ومات ذلك الزعيم ولم يظهر أحد!
مؤخرا قالوا إنه سيظهر فور نجاح "الحوثيين" في السيطرة على كامل جزيرة العرب، ثم جاءت "عاصفة الحزم" ليتم تأجيل ظهور المهدي حتى حيِّن، وليس رجما بالغيب إن قلت بأنه سيظهر غدا وبكثرة، لأننا -نحن المسلمين- من نجره جرا إلى كل حدث، وكأننا حين نشعر بالتِّيه والتخبط والخوف في الحاضر نستحضر الغد لنعيش فيه مطمئنين.
لقد تتبعت المهدي خلال حياتي، من شاشة إلى شاشة، من حدث إلى حدث، في الإعلام والإعلام الجديد، إلى أن رحت أتساءل: ماذا يعني أن يظهر المهدي بهذه الكثافة خلال العقود الثلاثة الماضية؟ فوجدتني أقتنع بأنه لا يظهر إلا في لحظات التشتت والارتباك من عمر الأمة، أي أنه دلالة إضافية على تردي الحال التي وصل إليها عالمنا العربي والعالم الإسلامي في الحاضر.
وإن مما يُؤسَف له، أنه لم يتغير شيء منذ حادثة "جهيمان" إلى اليوم. تقدم العلم، تطورت التقنية، بات بمقدورنا أن نمتلك أجهزة ذكية، أن نصل من خلالها إلى المعلومة بسرعة فائقة، أن نطلع بضغطة زر على آلاف الكتب والمحاضرات والدروس، رغم كل هذا لم يتغير شيء!
ما زال المسلمون -والعرب تحديدا- في انتظار شخص مؤيد من الله ليحل جميع مشاكلنا، ليملأ الأرض عدلا بعد أن ملأها تقاعسنا جورا.
ما زلنا نعقِد الآمال على إنسان لا يُشبِه الجميع، يهزم الأعداء بضربة، يُعيِد المظالم، يُوحِد الجميع، يحث المال في زمانه حثا، يتصادق في زمنه الذئب مع النعاج، وينقلب سم الأفعى إلى عسل مصفى، كيف سيحدث كل هذا؟ لا يهم! المهم هو إيماننا بحتمية الحدوث، إيمان يضمن لنا الهروب قدر المستطاع من الحاضر الذي أفسدناه.
ثم ماذا لو ظهر المهدي اليوم والأمة الإسلامية والعالم العربي على هذه الحال؟!
لا جامعات مرموقة، لا مؤسسات مدنية، إضافة إلى البطالة والفقر والانتهازية والوصولية، وزد عليها الأمراض العضال من طائفية ومذهبية وعنصرية، ماذا سيصنع المهدي بكل هذه الملفات الشائكة؟!
يقولون إنه سينشر العدل، وبحد السيف، لكنهم لا يقولون كيف لحد السيف أن يُوظِف العاطلين، وأن يطوِر التعليم، وأن يقضي على العنصرية والطائفية والمذهبية، إلا إن قضى بسيفه على الجميع وأبقى على جماعة واحدة كما يعتقدون!
كأننا نهرب من الواقع بكل تعقيداته الشائكة إلى مستقبل مجهول لكنه مريح، وإن أمة تخوض كل الصراعات دون أن تقضي على الجهل، والأمية، ودون أن تُطوِر أنظمتها التعليمية والصحية، فإن عدوها الخارجي سيختلق ألف عدو داخلي لتقضي عليه.
لهذا نرى كيف أن لكل جماعة إسلامية "مهديها" الخاص بها، كل جماعة تريد من مهديها أن يقوم أولا بتطهير الأرض من باقي الجماعات الإسلامية كشرط أساس قبل البدء في نشر العدل!
خلاصة الكلام، المهدي الذي رأيته يظهر بكثرة، المهدي الذي لم يفته حدث إلا وأطل عليه ثم اختفى في ظروف غامضة، هذا المهدي تحديدا ليس إلا محاولاتنا الدؤوبة للبحث عن حيِّز نُمارِس فيه حقنا بالشهيق والزفير، لأن المسلمين من طنجة إلى جاكرتا يفتقدون هذا الحيز. إنه فضاء مستقبلي جميل يذهب إليه العرب والمسلمون كلما شعروا بالملل من الوجود في فضاء الماضي الجميل، بمعنى أن استحضار المهدي محاولة نقوم بها دائما للهرب إلى الأمام، مثلما نهرب دائما إلى الخلف، فالمهم ألا نبقى في الحاضر كثيرا كي لا نختنق.
هذا الحاضر الذي يصفعنا بيمينه دائما، صفعة تأخذنا أحيانا إلى الأمس وأحيانا ترسلنا إلى الغد، نعود للأمس فنلوم الأموات لأننا لا نجرؤ أن نلوم الأحياء، نذهب للغد فنعرف كل شيء عن شخصيات لم تُوجَد بعد، لأننا لا نعرف أي شيء عن الذين أفسدوا الحاضر!
بعد كل ما سبق، إن المهدي هو ذلك العربي، وذلك المسلم، في هذه الخارطة الواسعة حين يشعر بالحيرة والقلق والاضطراب في حاضره، فيهرب إلى واقع افتراضي مستقبلي طمعا في الطمأنينة وراحة البال. إنه دلالة فشلنا في إصلاح الحاضر. إنه الانعكاس المُضيء لسواد يومنا.