ما زلت أذكر جيدا ذلك اليوم الذي دخل فيه ابني البيت عائدا من المدرسة ليخبرني أن أستاذه ضربه، وما زلت أذكر جيدا مدى الألم الذي عصف بقلبي تلك اللحظة وكأن شخصا أخذ بقلبي واعتصره بين يديه. 

لقد كان ألمي أكبر بكثير من ألم ابني، واستمر الألم يعتصرني طوال اليوم، بل لم أنم تلك الليلة، وفي الصباح الباكر من اليوم التالي كنت في المدرسة أنتظر مدير المدرسة.

إنني أعترف أن رد فعلي المبالغ فيه لم يكن موضع تساؤل مني آنذاك، فلم أدرك ما كان وراء رد فعلي ذاك، إلا عندما بدأت رحلتي مع الذات، فوجدت أن لكل إنسان ردود فعل قد لا تتناسب مع الحدث، وعندما يُسأل الشخص عن رد فعله المبالغ فيه، تكون الإجابة التقليدية أن رد الفعل هذا لم يكن سوى نتاج تراكمات سابقة، فجاء هذا الحدث البسيط ليكون بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، أو كما يقولون.

ولكن ماذا تعني كلمة (تراكمات)؟ وأين تختبئ تلك التراكمات في الإنسان؟ وما الذي يجعلها تنفجر لحدث دون غيره؟

قررت أن أغوص لأسبر أغوار تلك التراكمات فوجدت أن كثيرا من الدراسات عرفتها بأنها آلام عاطفية ومشاعر سلبية حدثت في الماضي تبقى حية فينا على شكل حقل طاقة تراكمية سلبية أسماها إيكارت توللي في كتابه أرض جديدة بـ(كتلة الألم).

بعض هذه الكتل تنشأ في الطفولة من جراء معايشة تجارب وأحداث مؤلمة محملة بقدر كبير من العواطف السلبية الجامحة، ولا يُتعامل معها في حينها من قبل إنسان بالغ ناضج واع، فتبقى هذه العواطف والمشاعر السلبية كامنة حية، ولكن غير مدركة من قبل حاملها، أدركت الآن أن رد فعلي المبالغ فيه لم يكن إلا صرخة كتلة الألم التي فيَّ، لقد كانت تجسيدا لمعاناتي عندما كنت في مثل عمره وذقت من آلام الضرب من أستاذ ظالم، أعتقد أنه كان يضرب طلبته وهو لا يدرك أنه لم يكن يضرب ليربي وإنما يضرب لينفس عن كتلة ألمه، ولم يدرك كذلك أنه في كل مرة يضرب ظلما يزرع في من يضرب كتلة ألم جديدة تبقى مع حاملها طوال عمره إن لم يتعامل معها في وقتها وتجتث قبل أن تترسخ في النفس جذورها فتنمو وتكبر مع الأيام.

وكتل الألم قد تعبر عن نفسها عند الأطفال بصور مختلفة كالقلق أو الخوف أو العنف أو المزاجية أو الانسحاب والهروب للجلوس في زاوية أو مص الإبهام أو البكاء والصراخ أو التخريب، بل وفي حالات تتحول إلى أمراض جسدية.

هذا الحقل من الطاقة يعيش في كل خلية من خلايا الإنسان، مما يجعل الوالدين في كثير من الأحيان يعجبان كيف ينقلب الطفل الملاك إلى وحش صغير، ومن أين جاء هذا الوحش؟ وقد لا يدرك الوالدان أن هذه الطاقة السلبية التي يرونها في طفلهما تنفجر بين الحين والآخر، ما هي إلا انعكاس ومرآة لكتل وطاقة الألم التي يحملانها.

كم من الأطفال شاهدوا دراما والديهم وهما يعبران عن كتلتي ألمهما بالخصام والعراك والنزاع، وكثير من هؤلاء الأطفال يكبرون ليصبحوا من أصحاب كتل الألم الثقيلة المرهقة، والتي تؤثر في مجرى حياتهم إن لم يدركوها ويعرفوا كيف يتعاملون معها، بل وحتى لو تفادى الوالدان العراك والشجار أمام طفلهما فإن حقل الطاقة السلبية التي تملأ أجواء البيت كافية أن يتشربها الطفل وتنعكس عليه سلبا.

فكتل الألم طاقة سامة ومعدية، والأطفال بطبيعتهم الفطرية السوية الشفافة يمتصونها بكل سهولة، وقد تنشأ طاقة كتل الألم في مراحل مختلفة من حياة الإنسان أثناء البلوغ أو المراهقة أو حتى سنوات الرشد، وعلى حسب نوع التجربة المؤلمة والعواطف المرافقة لها تتكون طبيعة طاقة كتلة الألم في كل إنسان، فعلى سبيل المثال إذا كان الطفل قد ربي في بيت كانت المادة والمال هي محور وسبب الصراع والعراك والشجار بين والديه ومصدر المعاناة والآلام، فإن طاقة الألم التي ستنشأ في داخله ستكون من طبيعة المعاناة الأولى وستختزل آلام وخوف الوالدين تجاه المال بصورة خاصة ومضاعفة، وتبقى هذه الطاقة كامنة حية داخل الإنسان لتنفجر كلما طرأ حدث متعلق بالمادة أو المال.

أو طفل آخر عانى الهجران صغيرا فتنشط كتلة الألم في كبره كلما طرأ طارئ يستثيرها مثل تأخر صديقه أو شريكة عمره عن موعد مسبق، فيكون رد الفعل لا يتناسب مع مجرد التأخير البسيط عن الموعد، وكذلك الحال في امرأة عانت في زواجها الأول فإنها تُكون كتلة طاقة ألم ناتجة عن آلامها ومعاناتها، وقد تكون مزيجا من شك أو انعدام ثقة وغضب واستياء موجه لأي رجل آخر يدخل حياتها، وقد يحول ذلك بينها وبين تكوين علاقة سليمة ناضجة متزنة ومستقرة في المستقبل، فتنفجر طاقة الألم بين الحين والآخر لأحداث صغيرة، لأنها استثارت نوعية الألم الكامنة في كتلة الألم داخلها.

كل واحد منا لديه كتلة ألم، ولكنها تختلف في نوعيتها ومقدارها ومدى جهل أو إدراك الإنسان بها، ولكن كيف يمكننا التعرف على كتلة ألمنا، بمنتهى البساطة انظر إلى ردود أفعالك، فعندما تكون ردود أفعالنا لا تتناسب على الإطلاق مع الوضع أو الحدث الذي بين أيدينا فنرى رد فعل قويا شديدا مبالغا فيه لموضوع لا يستوجب مثل رد الفعل هذا، فاعلم أنها كتلة الألم التي فينا تعمل داخل (الأنا)، ولو أنك حاولت أن تجد سببا ظاهرا مقنعا يبرر رد الفعل المبالغ فيه من غضب أو حزن أو خوف فلن تجده.

أدركت الآن سبب بعض ردود أفعالي في السابق التي كانت أكبر مما يستوجب الموقف، بل وبعضها كان مبالغا فيه ومضخما إلى الحد الذي كان يستوقفني وأعجب من نفسي ولا أجد سببا ومبررا لرد فعلي الشديد لموقف بسيط، ردود الأفعال هي إحياء عاطفة قديمة مكنونة في كتلة الألم الداخلية ومنها تنتقل الأفكار والتي بدورها تضخم (الأنا) وتشحنها بالقوة، فكتلة الألم هي جزء من (الأنا) التي فينا.. الصورة الذهنية التخيلية الوهمية لمن نكون.

فرد الفعل الذي نراه لن نجده في الحدث أو الوضع إنما هو تضخيم متعمد للحدث من قبل (الأنا) لاحتياج كتلة الألم له، فهي تتغذى على هذا النوع من ردود الأفعال ويشعرها أنها ما زالت حية، والأشخاص المسكونون بكتل الألم والذين يحملون طاقة ألم ثقيلة يصعب عليهم الخروج من تفسيراتهم المشوهة للواقع والأحداث، فالعقل ينسج من خياله قصة مثقلة عاطفيا تصبح قصتي الحزينة وتمدها بكل المبررات المختلقة المصطنعة لتبرر صحتها، وكلما مر الوقت وتجذرت قصتي الحزينة في داخلي وشحنت بالطاقة عبر القراءة الخاطئة للأحداث أصبحت القصة أصعب على الاختراق، فيعلق الإنسان فيها لتصبح سجنه وهويته التي يعرف نفسه من خلالها، يصبح الإنسان عالقا في فيلمه الدرامي، ويصبح هذا هو الواقع ولا واقع غيره.

وفي مقال قادم - بإذن الله - سنحاول أن نجيب عن سؤال: كيف يمكن معالجة كتلة الألم؟