لا شيء يؤلم الكائن الحي كالتكميم، ولا تكميم أكثر إيلاما من التكميم المجازي بلا سبب أو ذنب سوى وجود شيء من التغرير الصبياني بفاعل التكميم، لهوى في نفس المغرر، أو رغبة في التسلط تحملها نفس الفاعل.

ومن البدهي ألا يكون التعبير عن آلام الكبت – في الشعر – مباشرا، وإنما يأتي عن طريق صور شعرية معقدة، ورمز بعيد، وهو ما لاحظته وأنا أقرأ في قصيدة عنوانها: "زرقاء"، للشاعر تركي الزميلي، وفيها يهرب من التصريح، حتى إنه يرسم صورة مشهدية كاملة، بأقل عدد من الكلمات، وتجتمع فيها أكثر من ميزة، كإيجاد علاقات مفاجئة بين الألفاظ، بالاعتماد على "انزياح لغوي"، ملائم للصورة، وللمعنى، وللسياق، بمعنى أنه انزياح غير معتسف، أو من خلال إسقاط الذات على الجمادات، أو تعديد الاحتمالات، دون غموض أي منها، ومن ذلك قوله في تلك القصيدة:

وعلى صقيع الرمل تنشج جمرة

والريح تلطم وجهها وتعاني

والرمز هو عماد القصيدة، المكونة من ثمانية أبيات، تصور شعور الكبت الذي يحس به الشاعر، بسبب كثرة القيود الناجمة عن حدة بصر مراقبيه، الذين شبه عيونهم بعيون "زرقاء اليمامة"، في استخدام رمزي لقوة بصر الرقيب، على الرغم من أنهم لا يبصرون منه سوى ما يمكنهم من إيذائه، لا ما يضيف إلى عقولهم الصغيرة جدا.

أما الصورة الجزئية التي يرسمها هذا البيت، فهي جزء من صورة كلية، جامعاها: الكبت، والألم، لكن الصورة الجزئية نفسها، تحولت إلى صورة مشهدية كلية، فالجمرة الحارقة، تبكي على صقيع الرمل، والريح كامرأة تلطم وجهها ذهولا مما تراه، وليس في تشخيص الجمرة والريح إضافة جديدة، وإنما الجديد هو كون الرمل باردا إلى الحد الذي جعل الشاعر يضيفه إلى "الصقيع"، والصورة المعتادة عن الرمال، هي أن توصف بأنها حارقة، أو تضاف إليها مفردة اللهيب، فيقال: لهيب الرمل، أو لهيب الرمال، ويقال: الرمال الحارقة، أو الرمل المحرق.

وأزعم أن الشاعر بتركيب: "صقيع الرمل"، قد أوجد علاقة جديدة بين لفظتين، وذلك داخل فيما يعرف بـ"الانزياح اللغوي"، وهو "انزياح بسيط"، عند النظر إليه بمفرده، و"انزياح مركب"، عند ربطه بالسياق، وهو انزياح غير معتسف، كما هو الحال في كثير من القصائد الحديثة، وإنما هو انزياح مقبول؛ لأن إضافة "الصقيع"، إلى "الرمل"، توحي بشيء من التضاد، وكأنهما جوهران مختلفان، أو عقلان متباينان، كالتباين بين عقلي: الرقيب، والشاعر، فالجمرة هي الشاعر ذو الروح الملتهبة، والرمل هو الرقيب، سواء أكان إنسانا عاديا، كزوجة، أو أب، أو قريب، أو حاسد، أو ناقص، أو متربص، أو سفيه، والمهم هو المفارقة والاختلاف.

مثل هذا البيت المشهدي الممتاز، ونظائره المكتوبة في حالات التكميم، تجعل مثلي ممتنا للرقيب، ولزميليه: المكمم، والمحرض "اسما فاعل"؛ لأن الإبداع المتجاوز يولد من رحم صعوبة التنفس.