لو افترضنا رجلين؛ كلاهما محافظ على الفرائض، وكلاهما حسن الخلق، غير أن أحدهما يعفي لحيته، والآخر يأخذ منها ويقصها – آخذا بفتاوى من يثق بهم من العلماء -؛ فهل يُعدُّ الأول أتقى لله من الثاني؟

ولو افترضنا امرأتين؛ كلتاهما مصلية صائمة حسنة الخلق، لكن أولاهما تنتقب أو تغطي وجهها، والأخرى تكشف وجهها - آخذة بفتاوى من ترتضيهم من العلماء -؛ فهل تعد الثانية أقل تقوى من الأولى؟

بطريقة أخرى أصوغ هذا السؤال:

هل المتشدد في الاجتهادات الفقهية هو – بالضرورة – أتقى لله ممن يأخذ بغير المتشدد من أقوال المفتين؟ وهل غير المتشدد هو – بالضرورة – أقل تقوى لله من مخالفه؟

لقد اختلف أئمة المسلمين في قضايا كثيرة، فلم ير أحدهم الآخر فاسقا ولا عاصيا لمخالفته، بل يترضى بعضهم على الآخر ويترحم بعضهم على الآخر ويذكر أحدهم الآخر بكل حب وتقدير، ولم ير أحد من الأئمة الكرام من يخالفه في مسألة فيتشدد فيها أو يتساهل بأنه أقل تقوى منه؛ فمن أين – ليت شعري – ارتبط عند طائفة من الناس أنه كلما ازداد تشدد المرء في بعض الأقوال الفقهية كان أتقى لله ممن لم يتشدد؟!

قال الإمام أبو يعلى الفراء الحنبلي في كتابه (العدة) في أصول الفقه: "وأما تسويغ العامي تقليد من يشاء من المجتهدين فلعمري إنه كذلك.

وهو ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية الحسين بن بشار المخرمي وقد سأله عن مسألة من الطلاق فقال: إن فعل حنث. فقال له: يا أبا عبدالله إن أفتاني إنسان، يعني: لا يحنث؟ فقال له: تعرف حلقة المدنيين بالرَّصافة؟ قال له: فإن أفتوني يحل؟ قال: نعم".

قال أبو يعلى الفراء معلقا على هذه القصة:"وهذا يدل على أنه لا يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين؛ لأنه أرشده إلى حلقة المدنيين، ولم يأمره بالاجتهاد في ذلك".

يرى أبو يعلى الفراء (الحنبلي) إذن أن (للعامّي) أن يقلد (من يشاء) من المجتهدين، مستنبطا هذا من الإمام أحمد رحمه الله، حين استفتاه هذا الرجل في مسألة من مسائل الطلاق، فأفتى الإمام أحمد باجتهاده، وكانت فتواه شديدة، فسأله تلميذه: فماذا يا شيخ لو أفتاني رجل بخلاف قولك وكان قوله أخفَّ شدة من فتواك؟ فدلّه الإمام أحمد على من يفتيه بفتوى أخف من فتواه. ولم يقل: هذا متساهل مميّع للدين لا يجوز أن تأخذ منه.

وينقل الفراء كذلك قصة أخرى عن الإمام أحمد، فقال: "وكذلك نقل ابن القاسم الحنبلي أنه قال لأحمد -رحمه الله-: ربما اشتدَّ علينا الأمر من جهتك فمن نسأل؟ فقال: "سلوا عبد الوهاب".

من هاتين القصتين نستنبط فوائد:

1. إن التشدد في الفتوى ليس بالضرورة علامة على زيادة التقوى، وأن التيسير فيها ليس بالضرورة علامة على قلة الدين وضعفه، ولو كان كذلك لما دلّ الإمام أحمد تلاميذه – بكل أريحية – على الأخذ ممن عُلِم عنه التساهل لا التشدد.

2. أن الإمام أحمد لم يرَ هؤلاء الذين أرشد تلامذته للأخذ منهم إذا أفتاهم بما يشتد عليهم؛ لم يرَهم مميعين للدين، هادمين للإسلام، ناقضين لعراه.

3. أن الإمام أحمد يعلم أن اجتهاده ليس هو الدين بل هو اجتهاده الشخصي، ويعلم أن اجتهاد مخالفيه ليس هو الدين بل هو اجتهادهم الشخصي، وأن شأن الخلاف في الفقه يسير.

4. نرى أن تلامذة الإمام أرادوا بأنفسهم أن يأخذوا بفتوى أيسر لهم فيما سألوا عنه – وعن سبق إصرار وترصد – وسألوا أحمد بن حنبل نفسه أن يرشدهم إلى من يفتيهم بخلاف فتاواه فأرشدهم إلى ذلك بكل أريحية وتواضع، ولم ينههم أو يهاجمهم.

5. أن الإمام أحمد لم يأمر تلامذته في أن يجتهدوا لمعرفة المفتي الذي يأخذون عنه، فأرشدهم إلى حلقة المدنيين بشكل عام، ولم يعيّن لهم أحدًا بعينه منهم يأخذون عنه.

6. يستنبط أبو يعلى الفراء الحنبلي الذي نقل هذه القصة أن للعاميّ أن يسأل "من يشاء" من المفتين.

7. يستنبط الإمام أبو يعلى الفراء الحنبلي كذلك من القصة فيقول: "ويدل أيضاً على أن العامي إذا سأل عالِميْن، فأفتاه أحدهما بالحظر والآخر بالإباحة أنه يجوز له أن يأخذ بقول من أفتاه بالإباحة".

وأضيف إلى النص السابق نصا مهما آخر للخطيب البغدادي يرحمه الله من كتابه الشهير (الفقيه والمتفقه)، له مدخل بكلامنا هنا، يقول: "فإن قال قائل: فكيف تقول في المستفتي من العامة إذا أفتاه الرجلان واختلفا فهل له التقليد؟ قيل له إن شاء الله: هذا على وجهين؛ أحدهما: إن كان العامي يتسع عقله، ويكمل فهمه إذا عقل أن يعقل، وإذا فهم أن يفهم فعليه أن يسأل المختلفين عن مذاهبهم وعن حججهم، فيأخذ بأرجحهما عنده، فإن كان عقله ينقص عن هذا، وفهمه لا يكمل له، وسعه التقليد لأفضلهما عنده وقيل: يأخذ بقول من شاء من المفتين، وهو القول الصحيح؛ لأنه ليس من أهل الاجتهاد وإنما عليه أن يرجع إلى قول عالم ثقة، وقد فعل ذلك، فوجب أن يكفيه، والله أعلم".

فها هو ذا الخطيب البغدادي -يرحمه الله- يرى أن أخذ المستفتي من أي عالم يشاء هو القول الراجح عنده والصحيح في مذهبه، دون أن يقيد ذلك بأن أتقاهم هو الأكثر تشددًا، وخلافه بخلافه.

ولو استعرضنا أقوال الصحابة فيما اختلفوا فيه لوجدنا التشدد والتساهل في بعض المسائل المختلف فيها، وذاك التشدد أوالتساهل محال أن يكون على سبيل التشهّي، بل هو ما أدى إليه اجتهاد كل منهم، وهو الظن بالفقهاء الأئمة من بعدهم، والظن بعلماء المسلمين.

وليس من حق أحد أن يتهم أحدا في نيّته فشأن النيّات لا يعلمه إلا الله تعالى، والتقحّم فيه تقحّم فيما لا يجوز؛ فإن الله حرّم قطعًا أن يساء بالمؤمن الظن.

إن للتقوى معايير وردت في كتاب الله تعالى، ووردت في المحكم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعلق الله ولا رسوله زيادة التقوى ولا نقصانها على اتباع ما كان شديدا أو يسيرا من أقوال الفقهاء واجتهادات المفتين.

وإن الأبعد حقا عن التقوى ليس من تخيّر من أقوال العلماء والمفتين، بل الأبعد عن التقوى حقا من أخذ يسيء الظن بمن يخالفه من عباد الله، ويؤذيهم، ويشوه سمعتهم، ويحرّض عليهم، ويتهمهم بعداوة الدين، وهدمه، وما يلزم منه في بعض الأحيان تكفيرُهم.