أنا شخص جاد جداً جداً عند متابعتي التلفزيون، بل نادراً ما أغادر "لستة" قنواتي المفضلة التي تزدحم فيها نخبة القنوات الإخبارية العربية والعالمية. في الأشهر الأخيرة أدركت زوجتي تأثير هذه القنوات الإخبارية على أعصابي وعلى نفسيتي المشدودة وباتت تدهمني في مكتبي المنزلي في غارات "حزم" كي تتأكد أنني لم أعد أشاهد "ABC" الأميركية أو نغمات "الحدث" الصاروخية مع كل خبر. فجأة... وقفت أم مازن على باب المكتب لتقول لي في جملة "إيقاظ" مذهلة: يحزنني جداً أنك أصبحت تتفرج على مشاهد القتل والصواريخ والقنابل ومناظر جثث النساء والأطفال على قنواتك المفضلة، وأنا الذي لم أعرف معك منذ ربع قرن من الاقتران سوى دموعك القريبة، وعاطفتك الجياشة، وهروبك من كل منظر أو خبر أو مقطع كان ذات زمن يجرح مشاعرك الإنسانية الدافئة. كانت "أم" منزلنا الصغير تقول لي بحزم وهي واقفة على باب المكتب: علي... لم أعد أشاهد دموعك الصادقة التي كنت أعرفها مع كل يتيم أو فقير أو أرملة. تركتني وحدي في العامين الأخيرين كي أجاهد مع كل هؤلاء الذين أحضرتهم إلى حياتنا الخاصة حين تفرغت أنت لنشرات أخبار البؤس والجثث والصواريخ والقنابل.
تواصل... لقد حولتك نشرات الأخبار في العامين الأخيرين إلى شخص كئيب بليد الإحساس يتناول وجبة العشاء بلذة وهو يشاهد مناظر الجثث، وهذا لم أكن أعرفه عن "الزوج" المرهف الإحساس الذي كان من قبل يضع بقايا الطعام في صحن أمام باب منزلنا من أجل قطط الشوارع الجائعة.
خذوا هذه الخلاصة: مساء الخميس الماضي، ذهبت إلى منزل صديق زميل لا زال يعيش الأمل والحياة والمستقبل، ثم سردت عليه ما كان من حواري السابق مع زوجة تحاول أن تنقذني من نشرات أخبار البؤس والقتل والكآبة. قال لي هذا الصديق الأثير بعد أن استوعب أركان الحوار بين زوج وزوجة: تعال لنكتشف "الدور السفلي" من "بدروم" هذا العالم العربي الذي يختلف جذريا عما تشاهده في نشرة الأخبار، وخذوا هذه النتائج: لأول مرة أعرف أن في عالمنا العربي اليوم ما لا يقل عن ألف راقص وراقصة يقبضون رواتبهم بعد كل أغنية في عالم عربي يسقط على أرضه ألفا صاروخ في اليوم الواحد، وبالبرهان... قال لي هذا الصديق إن سورية رغم كل ظروف الحرب قد أنتجت في عام 2014 ما يقرب من 130 مسلسلا أصيلا أو مدبلجا، اكتشفت أن في العراق بضع قنوات طرب ووناسة، وأن ليبيا رغم ظروفها تبث قناتين للموسيقى وللفلكلور، أخذني "ريموت" صديقي إلى "الدور الأرضي" أو "بدروم" هذا العالم العربي حيث لا زال هناك من يطرب ومن يرقص. اكتشفت معه أن نشرات الأخبار مجرد واجهة أو حفلة عذاب لعشاق البؤس والاكتئاب بينما هناك عالم عربي خفي من تحت الطاولة.