في شهر 15 مايو عام 1948، أعلن الصهاينة من جانب واحد قيام كيانهم الغاصب. وقد جاء ذلك تنفيذا للوعد البريطاني الشهير المعروف بوعد بلفور الذي وعد بأن تكون فلسطين وطنا قوميا لليهود. فكان أن أعطى من لا يملك وعدا لمن لا يملك حقا في فلسطين التاريخية.

وكان هذا الوعد مقدمة لأحداث عاصفة في حوض البحر الأبيض المتوسط، بضفتيه الشرقية والجنوبية. فقد بدأت، إثر هذا الوعد، الهجرة اليهودية المكثفة إلى فلسطين، ومع تصاعد الهجرة تصاعدت الانتفاضات والمقاومة الفلسطينية للوجود اليهودي على أرض فلسطين، بالغة أوجها في ثورة 1936. وفي حينه فشلت كل المحاولات الدولية، إن من حيث إيقاف الهجرة، أو إقناع الشعب الفلسطيني بالتخلي عن حقوقه الوطنية والتاريخية.

في 17 نوفمبر عام 1947، تبنت الأمم المتحدة القرار 181 الذي قضى بتقسيم فلسطين مناصفة إلى دولتين، دولة فلسطينية وأخرى يهودية، ووضع مدينة القدس تحت الإشراف الدولي، نظرا لأهميتها الدينية، بالنسبة للديانات السماوية الثلاث.

وبسبب تداخل القضية الفلسطينية وتشابكها وتعقيداتها، وارتباطها زمنيا واستراتيجيا باتفاقية سايكس بيكو، أثناء الحرب العالمية الأولى، التي قسمت المشرق العربي بين البريطانيين والفرنسيين، أصبح النضال من أجل استقلال المشرق العربي مرتبطا بقضية تحرير فلسطين، ومنذ ذلك التاريخ أمست القضية الفلسطينية قضية العرب المركزية. وتضاعفت أهمية القضية الفلسطينية بالنسبة للعرب جميعا، بعد تأسيس النظام العربي الرسمي، في المرحلة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية. وساد وعي وطني بأن التجزئة هي أهم عامل في إلحاق الهزيمة بالعرب وانتصار المشروع الصهيوني.

ومنذ نكبة 1948 أصبح النظام العربي يستمد مشروعيته من الالتزام بالقضية الفلسطينية. والأقطار العربية التي كانت مقتصرة على سبعة، أثناء النكبة تجاوزت العشرين في مطالع السبعينيات، بعد الانسحاب البريطاني من شرق السويس، حيث حصلت بلدان الخليج العربي على استقلالها، ليكتمل استقلال البلدان العربية، فلا يتبقى تحت الاحتلال سوى فلسطين.

بعد تجربة النكبة المريرة، تكشف عجز الدول العربية منفردة عن الاضطلاع بتحرير فلسطين، ارتبطت قضية الوحدة بمشروع تحرير فلسطين. وأصبح مستوى الاقتراب من هذه القضية هو الذي يمنح الشرعية للنظم العربية. وكان التعهد بالعمل على تحرير فلسطين يتصدر بيانات الانقلابات العسكرية العربية، في الخمسينيات والستينيات من القرن الذي مضى.

وانتقل ذلك لاحقا للأحزاب السياسية العربية، بما في ذلك الأحزاب التي أيدت قرار التقسيم، التي قامت في الستينيات بمراجعة نقدية لمواقفها، فرأت في الدولة العبرية كيانا استيطانيا أوروبيا، زرع في الأرض العربية، ليحول دون تقدمها. لقد أمست القضية الفلسطينية عامل توحيد للطاقات العربية، بحيث يمكن القول إن النظام العربي الرسمي، وجامعة الدول العربية، ما كان لهما أن يستمرا لولا القضية الفلسطينية.

لقد تأكد ذلك حين عقدت أول قمة عربية في الستينيات من القرن الماضي. فلم يكن لذلك المؤتمر أن يعقد إلا تحت يافطة مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية على نهر الأردن الذي كانت إسرائيل تعمل على تحويل مجراه لصحراء النقب. وقد تمخض عن ذلك الاجتماع خطوات مهمة، على رأسها تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية، وجيش التحرير الفلسطيني، وتوقيع معاهدة الدفاع العربي المشترك.

تعددت مؤتمرات القمة بعد النكسة عام 1967، لإزالة آثار العدوان، ومؤتمر آخر بعد معركة العبور العظيم، لصياغة استراتيجية الأمة في مواجهة الغطرسة الصهيونية. ولتعقبها قمة عربية أخرى تتبنى وحدانية تمثيل منظمة التحرير للشعب الفلسطيني. وفي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي أطلقت القمة العربية عدة مبادرات لتسوية الصراع العربي الصهيوني، أهمها المبادرة العربية. لقد كانت القضية الفلسطينية بمثابة الصمغ اللاصق لتماسك النظام العربي، وحين يبتعد العرب عنها يحدث الانفصام والانقسام.

عندما عقد مؤتمر شعبي في بيروت قبل فترة قصيرة، ضم إسلاميين وعروبيين، في ظل انقسام أفقي ورأسي كبير بين العروبيين والإسلاميين، كان السؤال عن القواسم المشتركة التي يمكن أن تجمع بين التيارين في ظل الاحتراب المعمد بالدم بينهما، في عدد من الأقطار العربية. وكانت كل المؤشرات تؤكد على صعوبة إن لم تكن استحالة العمل بين التيارين. لكن القضية الفلسطينية، وقدسيتها في الوجدان والضمير العربيين حضرت لتنقذ الموقف.

فمن من العرب لا يؤمن بتحرير القدس، ومن منهم يرفض قيام الدولة الفلسطينية المستقلة على الأراضي التي احتلها الصهاينة في يونيو عام 1967؟. ومن هو الذي يملك الجرأة ليقول بأولوية قضية أخرى، على القضية الفلسطينية. ومن هو الذي لا ينظر بعرفان وتقدير لصمود وكفاح العرب الفلسطيني، من أجل التحرير. من الذي لا يرفض تهويد القدس، أو يعترف بيهودية دولة الكيان الغاصب. وهل هناك من يستطيع رفض حق العودة لأكثر من خمسة ملايين فلسطيني شردوا من ديارهم، وبقوا يعيشون في الشتات في ظل أوضاع بائسة، وعمل صهيوني دؤوب لتذويب هويتهم.

في ظل التشتت والضياع، وحيث الخراب والدمار وحروب الطوائف التي تزحف سريعا على الوطن العربي، مهددة وحدة كياناته الوطنية، لا يبقى من أمل لاستعادة روح التضامن والوحدة بين العرب، إلا بالعودة للثكلى النازفة بالجرح، منذ وعد بلفور، فليس هناك طوق للعبور من حالة الصراع الدامي بين العرب إلا فلسطين، فهي بوصلة تجاوز العصبيات، وهي الدواء لمعالجة الجروح العربية النازفة.

إعادة توجيه البوصلة نحو فلسطين سيسهم دون شك في تغليب القواسم المشتركة، ويلحق الهزيمة بحروب الطوائف، ويستعيد روح التضامن العربي، ويسهم في تحقيق صبوات الشعب الفلسطيني نحو التحرير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.