في الصورة الشهيرة لاجتماع الملك عبدالعزيز آل سعود مع الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت على متن البارجة كوينسي في عام 1945 يظهر ضابط أميركي (ظهره للصورة) منحنيا على إحدى ركبتيه وهو يخاطب الملك، كان ذلك الضابط الذي تولى الترجمة بين الزعيمين هو وليام إيدي، ضابط مكتب الخدمات الاستراتيجية (OSS) وهو اسم المخابرات الأميركية قبل تحولها في عام 1947 إلى وكالة المخابرات المركزية (CIA). ومع أن ذكر المخابرات الأميركية يثير في منطقتنا على الفور كل أنماط التخيلات السلبية فإن وليام إيدي المولود والمتوفى في لبنان وابن أحد المبشرين المسيحيين الأميركيين الذين عاشوا في المنطقة، كان ضمن الرعيل الأول من رجال الاستخبارات الأميركية الذين عرفوا بالمستعربين، وكانوا يكنون حبا كبيرا للمنطقة إلى درجة تبني قضاياها والدفاع عنها.

نشر مؤخرا في 2013 كتاب للمؤرخ الأميركي هيو ويلفورد بعنوان "لعبة أميركا الكبرى: مستعربو المخابرات الأميركية وتشكيل الشرق الأوسط الحديث" . في هذا الكتاب يدحض ويلفورد بالوثائق التاريخية الانطباعات السابقة في العالم العربي عن دور رجال المخابرات الأميركية، خاصة في المرحلة التأسيسية للشرق الأوسط الحديث ما قبل عام 1956 والعدوان الثلاثي على مصر، حيث بدأت الأمور بعدها في الانقلاب بشكل جذري انتهاء بالتحول في العلاقة الأميركية تجاه إسرائيل بشكل جذري إبان حقبة الرئيس جونسون.

اعتمدت المخابرات الأميركية في نسختها الأولية خلال الحرب العالمية الأولى على أبناء رجال الدين الأميركيين الموجودين في المنطقة ممن ولدوا وتربوا فيها وارتبطوا بالعرب وجدانيا بشكل كبير، فأثرت توجهاتهم بشكل كبير في الجيل الثاني الذي بدأ مع السي آي إيه، وهو ما تبدى في الصراع الخفي بين الولايات المتحدة الداعمة لحركات الاستقلال العربي مقابل القوى الاستعمارية القديمة بريطانيا وفرنسا، وانعكس هذا التأثير في رؤيتهم وتقديرهم لحالة المنطقة السياسية، فيذكر ويلفورد - على سبيل المثال - أن رجل المخابرات أرتشي روزفلت كان لا يحب الإيرانيين ويرى أن ثقافتهم تمثل كل الصور الاستشراقية السيئة عن المنطقة، مقابل العرب الذين يرى أنهم أقرب للديموقراطية بثقافة "المجلس" الخاصة بهم، ومن ثم وإن كان دعمهم للدول العربية منطلقا من مصلحة سياسية تتمثل في مواجهة الشيوعية واستبدال الاستعمار الأوروبي القديم، فإنه كان أيضا منطلقا من رؤية ترى أن العرب أصدقاء وحليف طبيعي، ولذلك أخذ رجال السي آي إيه المسؤولون عن ملف الشرق الأوسط منذ البداية موقفا قويا معاديا لإسرائيل، يلخصه ويلفورد في ثلاثة أسباب رئيسية:

أولا: معاداة الشيوعية حيث كان ينظر للحركة الصهيونية أنها حركة أقرب للشيوعية وذات توجهات يسارية، ثانيا: ارتباط أولئك الرجال وجدانيا بالعرب واحترامهم للمفهوم الأخلاقي الذي تحتفظ به الثقافة العربية القريب من مفهوم الأخلاق الأميركية سياسيا واجتماعيا كما كانت تؤمن به النخبة الأميركية في حينه، ثالثا: محورية النفط السعودي المكتشف عام 1932 في رؤية واشنطون للشرق الأوسط ولأمنها القومي وأهمية الحفاظ على المملكة كالحليف الأول والأهم في المنطقة. لقد وعى أولئك الرجال الأوائل أن تأييد واشنطون لقيام دولة إسرائيل سيعني معاداة كل العرب لأميركا وتهديد مصالحها، ولذلك عارضوا كل جهود التقارب بين الولايات المتحدة والحركة الصهيونية، لكن قوة الحركة على الوصول للإعلام الأميركي والتأثير على الرأي العام إضافة إلى سعي الرئيس ترومان لكسب الأصوات اليهودية في الانتخابات أفشل جهودهم في وقف الاعتراف الأميركي بتأسيس دولة إسرائيل.

في واقع الأمر مضى رجال السي آي إيه المسؤولون عن الشرق الأوسط شوطا بعيدا في معاداة الصهيونية ودعم القضية الفلسطينية. كيم روزفلت وهو أحد الأشخاص الذين رسمه الإعلاميون والمثقفون العرب بصورة سيئة للغاية نظرا لدوره في تخطيط وتنفيذ عملية "أياكس" التي أسقطت رئيس الوزراء الإيراني المنتخب محمد مصدق وأعادت الشاه إلى الحكم، كان أحد أكبر الداعمين للحقوق العربية بشهادة سيسيل حوراني (شقيق المؤرخ الشهير البرت حوراني) الذي ترأس "المكتب العربي" بواشنطون الذي أسسته جامعة الدول العربية للقيام بالجهود الإعلامية العربية هناك، حيث أسهم كيم بشكل كبير في فتح أبواب أروقة السياسة الأميركية أمام العرب.

لقد كان التمثيل العربي في أميركا، سياسيا وإعلاميا، ضعيفا للغاية مقارنة بقدرات وتحركات الحركة الصهيونية سواء في الكونجرس أو أوساط الإعلام، فقام كيم روزفلت بدعم معهد العلاقات العربية الأميركية الذي أسسه الفلسطيني الأصل خليل طوطح، وكان ضمن مجلس إدارته، وسعى مع مجموعة من اليهود الأميركيين الرافضين لقيام دولة إسرائيل ممثلين في المجلس الأميركي لليهودية الذي يترأسه الحاخام المار برجر إلى تأسيس "لجنة العدالة والسلام في الأراضي المقدسة" التي اضطلعت بدور لوبي معارض لقيام دولة إسرائيل، وفي عام 1951 لعب كيم دورا رئيسيا في إنشاء مجموعة "أصدقاء الشرق الأوسط الأميركيون"، وبدعم مادي من شركة أرامكو وقف خلفه وليام ايدي الذي انتقل إبان ذلك للعمل كمستشار بالشركة التي كان لها في حينه دور كبير في تمويل جهود تلك المجموعة ودعم برامجها للتأثير على الرأي العام الأميركي لصالح العرب.

كان الأمر غير المكشوف الذي تبين لاحقا، هو أن كيم روزفلت قام بتوجيه أموال من وكالة المخابرات الأميركية لهذه المجموعة الجديدة وتحت ستار تمويل الأذرع المعادية للشيوعية ودون علم المسؤولين بجهاز المخابرات، وهو ما أسهم في دعم هذه المجموعة في جهودها الإعلامية لمواجهة إسرائيل وقيامها بالعمل كأداة ضغط (لوبي) على صناع القرار لصالح العرب. فالتمويل الذي حصلت عليه هذه المجموعة من السي آي إيه كان كبيرا وقام كيم بإخفائه نظرا لأن جهود المجموعة لم تكن لعمل خارجي وإنما للضغط داخليا على صانع القرار الأميركي، رغم أن هذه المجموعة قامت بعدد من المبادرات الخارجية مثل دعم الزيارات المتبادلة وتأسيس برامج تبادل الطلاب، إضافة إلى عقد اجتماع لافت للنظر بالظهران في أبريل 1953 بين رجال دين مسلمين ومسيحيين نتج عنه تأسيس "اللجنة الدائمة للتعاون بين الإسلام والمسيحية" في واحدة من أوائل جهود حوار الحضارات.

أورد ويلفورد في كتابه كثيرا من التفاصيل عن جهود الأشخاص الذين وقفوا خلفها وما واجهوه من صراع مع المؤسسات الداعمة لإسرائيل، وكذلك دور أشخاص مثل كيم روزفلت ورجال السي آي إيه المسؤولين عن الشرق الأوسط في تلك الفترة في دعم وتأييد الموقف العربي رغم تعارض ذلك مع توجهات الإدارة الأميركية، وما واجهوه هم أنفسهم في محاولة التأثير على مسار السياسة الأميركية في المنطقة.

لا بد من الإقرار بأن سجل المخابرات الأميركية في المنطقة ليس ناصع البياض، فهم في دعمهم للعرب كانوا ينطلقون قبل أي شيء من رؤية معاداة الشيوعية، وهو ما جعلهم يدعمون أول انقلاب عسكري عربي في سورية 1949 على يد حسني الزعيم، ثم الوقوف بجانب جمال عبدالناصر عام 1952 قبل اختلافهم وخلافهم معه. كما أن مجموعة أصدقاء الشرق الأوسط تلك وإن دعمت القضايا العربية فإنها كانت أيضا منصة لإطلاق الجواسيس في المنطقة. وتلك المجموعة من رجال الوكالة الذين دعموا الموقف العربي وحاولوا تسويق الخطة الفا) التي سعت إلى إيجاد حل للقضية الفلسطينية (وهو حل لا يختلف كثيرا عن الحل المطروح اليوم بعد 50 عاما)، هم الرجال أنفسهم الذين شاركوا في الخطة أوميجا للتخلص من جمال عبدالناصر.

ورغم أن ويلفورد يورد شواهد تاريخية تشير إلى أنه في بداية الخمسينات كان مكتب الشرق الأوسط داخل المخابرات الأميركية، وكأنه في ثورة ضد السياسات الأميركية دعما للعرب، فإنه في المقابل كانت هناك مجموعة داخل المخابرات الأميركية تدعم إسرائيل بقوة بقيادة جيمس انغلتون ، بل يمكن القول إن جزءا من نجاح إسرائيل في إزاحة العرب عن الولايات المتحدة كان بسبب نجاحهم في فهم أن الصراع في جزء منه هو داخل أروقة الأجهزة الأميركية وعقول رجالها، وبانتصار داعميها داخل تلك الأجهزة على معارضيها.

قراءة ذلك التاريخ المتشابك والمعقد يجعلنا نتساءل: من هم أصدقاء العرب الحقيقيون في واشنطون اليوم داخل وخارج أجهزتها؟ ولماذا ضاعت كل تلك الجهود السابقة ولماذا لم يبن عليها منذ حينه بشكل مؤسسات راسخة؟ كما يجعلنا ذلك التاريخ نتساءل أيضا: ما هو الدور الحقيقي لمؤسسات مثل "المجلس الوطني الإيراني الأميركي" (NIAC) الذي يترأسه تريتا بارسي، وأين نحن من تلك الساحة التي تتخذ الفكر مسرحا للمنافسة والمواجهة؟ إننا نستفيق اليوم على حقيقة مرة وهي أن غالبية "الانتلجنسيا" الأميركية أصبحت مؤيدة لإيران، فكيف ومتى حدث هذا؟