أعاود الكتابة في "الوطن" المسمى الجميل، والصحبة التي شهدت بدايات الإصدار، وانقطعت لأسباب لا يشغلني بحثها الآن، وإن من قبيل الأخذ بنصيحة شاعر عربي قديم، دعا إلى الإقلال من ملامة الأصدقاء بعضهم حتى لا ينفض السامر عن حياة دون صديق يقبل استلام رسالة عتب.
وكنت أعتقد التواصل ـ المنتظم عبر صحيفة ناجحة ـ يضع الكاتب على رأس جبهة عريضة من القراء، الذين يوفرون له حزام أمان، كلما اقتلع من مكانه أو قرر العود أدراجه، وتبين لي أن مثل هذا الاعتقاد محض وهم، فما أندر القراء الذين تواصلوا معي أو حين الرجعة سألوا عني، ولو لم يكن سمو الأمير طلال بن عبدالعزيز من بين أولئك النادرين لاتخذت سبيلي في البحر سربا.
بودي لو كان هذا الاستهلال شأناً لا يحتمل التعميم لكنه ـ في الأغلب ـ حالة ثابتة من حالات وطبائع المجتمع العربي تجاه الذين أدركتهم حرفة الفكر والأدب أو قذفت بهم الدنيا في مرمى صاحبة الجلالة..
أمضى السيّاب حياته طريداً يغني الفرات من منفاه القسري حتى واتته الصرخة الأخيرة (مطر.. مطر وفي العراق جوع)، وكانت بغداد يومئذ حاضرة الأسطورة الباذخة، لا يجوز التذكير بها، ومن يدري فلربما جاءت حقبة (السيد المالكي) بعجائب من الماركة التي تجعل (النواسي) ينسى مرحه والسّمار بين الرصافة والجسر يبعثون كروت تهنئة لشهداء العراق على قصب السبق.
لكنما.. ليس بالشعار وحده يقضي المبدع العربي، إذ خلت القاهرة يوماً من بضع مشيعين يحملون فقيد وغريد النيل حافظ إبراهيم، والأمر قد لا يكون ذاته مع أحمد عدوية.. هل أقول أيضاً أن جيلاً في اليمن تفتقت مداركه على صوت شاعر كبير كتب يوماً:
من يعر عسكر الليالي خطاه ... يغدُ من عسكر الليالي طعينا
ومن ذا غير يحيى البشاري يهز جذوع النخل ويستثير شعباً طيب الأعراق، غير أن هذا الشاعر الفحل ودع الدنيا خلسة وما من مريد أَو متأثر يبل الشفاه العطشى برشفة ماء يوم احتضاره.
تلك ولا ريب طباع عربية لا تكترث بمتنوريها ولا تحتفي بمن يلهمها الحكمة أو يورثها المجد. وهل كان المعري ليشكو الغربة في أمة تداركها الله لولا سيادة الارتياب من صاحب موقف. أو مبتدر رأي، لهذا فما من شيء أحرى بالتدوين ولا أولى بالتخاطر من استخلاصات المتنبي.
(ذو الرأي يشقى...)
على أني لم أتوقع أن يأخذني الاسترسال إلى حيث انتهى المقال. ولا أخال "الوطن" تضيق بي أنا الآخر حتى استحضر تداعيات شعرية حملت نبوءة وضع كالذي يكتنف لبنان: "جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت.. ولقد أبصرت قدامي طريقاًً فمشيت.. كيف أبصرت طريقي.. كيف جئت.. لست أدري!!".
هل كان إيليا أبو ماضي يروي وضعاً مماثلاً أم منجماً يستشرف مستقبل بلد هو الأروع؟ ويكاد اليوم لا ينجو من مصيدة إلا وقابلته أخرى تتشهى الإيقاع به والنيل من خياراته المستقلة.
بيد أن لبنان الحبيب ليس استثناء ولا هو وحده الذي تتجاذبه أطراف صراع يتغذى من خارجه فغالبية أوطان ودول المنطقة العربية مهددة بصراعات داخلية متعددة الأسباب، متحدة النتائج تخوضها قبائل وطوائف ومذاهب وتيارات تحترف الثأر وينتظمها نازع الفيد والسلب، ما يدعو لإثارة سؤال مُلحّ عن مكان الطلائع النخبوية وقادة الرأي، ورواد الحقول الثقافية العرب من صراع القبائل والمذاهب والأشياع.. وهل يكفي اعتبارهم قبيلة الأجداث في عالم يستهلك الروح ويتعبّد المادة..؟