الضحك حلوى الحياة وفاكهتها اللذيذة؛ وهو يماثلها في طزاجته ونضجه ولذته وحلو مذاقه! فكلما كان طازجا نابعا من القلب كان جيدا مبهجا يحيل حياتنا من الكدر إلى اللذة. ولقد اخترنا موضوع الضحك والإضحاك لكي ننجو من عتمة الهم الكبير والحروب التي تحيط بنا، وحتى مناقشات الفلاسفة والعلماء! فقد ضاقت صدورنا من كل ما هو مكتوب ومسموع ومرئي، وكأنه حصار يحاصر النفس التي سيحاسبنا الله عليها؛ لأن لها حقا علينا؛ في وقت اختفت فيه الضحكة إلى حد بعيد. ومن منا لا تتوق نفسه للضحك؟! الضحكة ربما تبدو عابرة أو خاطرة وربما تصل إلى القهقهة في الفضاء، إلا أن لها ما لها في الصحة النفسية قبل البدنية، ولن نناقش فلسفة الضحك وآلياته لأننا قررنا الابتعاد في هذا المقال عن كل ما هو علمي أكاديمي لنحيا دقائق خفيفة الظل.
لي صديقة تعدى عمرها السبعين عاما إلا أنها تبدو في الأربعين من عمرها، صحيحة نشطة ضاحكة ومضحكة ومستبشرة تعشق الضحك بشكل دائم، وحينما سألتها عن السر قالت لي: لا أدع يوما يمر بدون ضحك، فإن لم يوجد استدعيته! ثم قالت: إنه في يوم من الأيام لم تجد ما يضحكها فوضعت قميصا في منتصف الغرفة ثم استدعت نساء أبنائها وجعلت مبلغا لمن تقوم برفع هذا القميص. وبطبيعة الحال تشكل أمامها فاصل درامي بين التردد والخوف والإقبال والإدبار على هذا القميص البريء. وبعد أن استمتعت بفاصل كبير من الضحك تقدمت هي بيدها ورفعت القميص ليكتشف الجميع ألا شيء في ذلك! وهذا ما يسمى بضحك المقالب. هذا هو سر سعادة أجدادنا حيث التعامل بفطرية سيالة مع الطبيعة، فلا تدع في أنفسهم إلا الصفاء والحب والسلام..
وهناك ضحك الدعابة وقد برعت فيه الأجيال السابقة أمثال ابن مكنسة وابن دنيال وابن سوسون والمويلحي وبديع خيري ونجيب الريحاني وإبراهيم ناجي وغيرهم من صناع الضحك، وإني لأربط بين حدة الذكاء وصناعة الضحك، وفي مهنتنا - نحن الدراميين - نجد أن صناعة الكوميديا أصعب بكثير من صناعة التراجيديا، لأنه من السهل أن تُبكي إنسانا، لكن يصعب عليك أن تضحكه! وبالتالي فصناعة الضحك أمر صعب يعتمد على الموهبة والذكاء وسرعة البديهة. أتذكر يوما كنا في معرض الكتاب في القاهرة وكان لقاء مع صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل. فتقدم أحد الحضور وقال له: حلمت يا صاحب السمو أنك أهديتني لوحة من لوحاتك فما رأيك صاحب السمو؟ فأجابه الأمير سريعا قائلا: وأنا أيضا حلمت أني أهديتك إياها! فما انتهى حتى ضجت القاعة بالضحك والتصفيق! هذا النوع من الضحك يسمى الدعابة. ولعلي أستدعي معكم قصيدة للشاعر الكبير إبراهيم ناجي وقد كان له جار اسمه حامد وفي يوم زفاف الأخير أرسل له ناجي يقول:
أحامد كيف تنساني وبيني.. وبينك يا أخي صلة جوار
أيشبع مصطفى الخولي وأبقى أعالج جوعتي في كسر داري
ثم يستمر في وصف حاله وحذائه وجوعه حتى يقول:
فإن لم تبعثن إليَّ حالا.. بمائدة على متن البخار
فإني شاعر يُخشى لساني.. وسوف أريك عاقبة احتقاري
وفي حينها وعلى وجه السرعة كانت المائدة أمام ناجي وبدون تأخير خوفا من لسانه!
وبطبيعة الحال فالحالة النفسية هي ما تكسب الضحك معناه وطلاوته، فإن كان الواحد منا مسرورا قهقه ملء شدقيه، وإن كان على غير حال زم شفتيه كقربة جافة ولوّح بكفه في وجهه القائل، وقال باللهجة الجنوبية التي نعشقها (سبعة زموك شينة) وذلك ليس إلا حرصا منه على الضحكة التي هربت. وللضحك فسيولوجيا غربية في تركيب الجسم البشري ولن أسردها لأنها ستكون ثقيلة في هذا المقام، وأغلبكم يعلمها مثل تقوية عضلة القلب وخفض ضغط الدم وغير ذلك واكتساب الجسم طاقة وحيوية.
وسواء كان نوع الضحك مقلبا أو مداعبة، أو سوء فهم؛ إلا أنها جميعها تحتاج إلى ذكاء وسرعة بديهة، والضحك دائما يعتمد على كسر التوقع والمبالغة والتناقض سواء بالحركة أو في الفعل، وأحيانا يقوم على الأخطاء وسوء الفهم.
يقال إن أحدا من الرجال قدم إلى قرية صغيرة لا يعرف فيها أحد، إلا أنه مطمئن أنه سيصلي في الجامع ومن العُرف أن الغريب لا بد أن يذهب مع أحدهم، ولكن ما حدث هو العكس فأوشك المسجد أن يفرغ ولم يأخذه أحد منهم. فصاح بأعلى صوته: (من يتروح الشاعر) - أي يأخذه معه - وعندما علموا أنه شاعر تسابق الناس عليه. وبعد العشاء توافد الناس من كل صوب لينعموا بأمسية شعرية؛ وكلما طلبوا منه قصيدة قال: دع المجلس يمتلئ؛ وحين امتلأ المجلس وكثر الناس وتزاحموا لسماع الشاعر لم يجد بدا من إطلاق عقيرته وبمقامات متنوعة ومتلونة وأطال بكل ألوان الزينة إلا أنه لا يقول إلا: (قال الجمل قال)، ويكررها، وحينما سئم الناس صاحوا في وجهه: ماذا قال الجمل؟ فقال: قال الجمل (عاه). فاكتشف أهل القرية جميعها أنه وضعهم جميعهم في مقلب كبير من أجل أن يمسي ويتعشى!
قديما قال عثمان الوراق: رأيت العتابي الشاعر العباسي يأكل على قارعة الطريق في أحد البلاد، فقلت: ويحك! أما تستحي من الناس؟! فقال لي: هل رأيت لو كنت في دار فيها بقر، كنت ستستحي وتحتشم؟ فقال: لا. قال العتابي: اصبر حتى أعلمك أنهم بقر. فقام فوعظ وقص القصص ودعا، حتى كثر الزحام عليه. وأسرهم بخطبته، ثم قال لهم: روى لنا غير واحد، أنه من بلغ لسانه أرنبة أنفه لم يدخل النار! فما بقي واحد إلا وأخرج لسانه يومئ به نحو أرنبة أنفه، وبقدرة أن يبلغها أم لا. فبدا المشهد جد مضحكا، حيث إن جموع البشر أمامه يرسلون ألسنتهم نحو أنوفهم في سباق محموم من منهم لن يدخل النار وبمنتهى الجد. فهمس في أذن صديقه: ألم أخبرك أنهم بقر؟!
والضحكة لا تضل طريقها إذا ما اتسمت صناعتها بالجد، أما إذا اتخذت ملمحا سخريا في البداية فقد فقدت وظيفتها! وهناك نوع من الضحك وهو أسوأ أنواع الضحك، وهو الضحك على العاهة أو النقيصة، لأنها تترك أثرا سيئا في نفس الآخر.
ومما سبق نستطيع القول إن في زخم هذه الأيام وزحمة الأفكار وسرعة إيقاع الحياة لا بد من ساعة من الضحك والأمل واستشراف مستقل جيد ومطمئن، لأن النفس إذا ما استبشرت وضحكت ورضيت واطمأنت فسوف تكون كذلك؛ فالأقدار على ألسنة البشر كما يقال. فكما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (روحوا القلوب ساعة بعد ساعة فإن القلوب إذا كلت عميت).