لم يجد المتحدث باسم وزارة الخارجية السودانية، السفير علي الصادق، غير توجيه أصابع الاتهام لجهات منافسة له داخل الوزارة، وتحميلها مسؤولية انضمام ابنته "صافنات" - ذات الثمانية عشر عاماً والطالبة في إحدى أرقى كليات الطب الخاصة – لتنظيم داعش. ولم يكتف الوزير بذلك، بل شد الرحال إلى أنقرة للحاق بابنته واستعادتها قبل دخولها سورية والتحاقها بصفوف التنظيم المتطرف.

هذا الوضع الحرج لم يكن مقصورا على الديبلوماسي الرفيع وحده، بل شاركه فيه كثير من رموز المجتمع السوداني ونخبته، من أساتذة بأرقى الجامعات البريطانية، ومهندسين مشهورين، ما يرفع أكثر من علامة استفهام حول الجهة التي تعمل على إلحاق أبناء النخبة السودانية بصفوف التنظيم الإرهابي، وهي ظاهرة كانت حصرية على المهمشين والفاشلين.

وربما يكون مسوغاً للبعض أن ينضم إلى مثل هذه التنظيمات غير السوية، أفراد يعانون من تجاهل المجتمع لهم، أو تعرضوا لظروف لم تمكنهم من إكمال تعليمهم، وبالتالي أصبح مستقبلهم مظلما وغامضا. وبالتالي يحملون في دواخلهم حقدا تجاهه، ونقمة تجاه أوضاعهم. لكن أن تشمل قائمة المغرر بهم أفرادا ناجحين، تربوا في كنف أسر مرفهة، وحصلوا على نصيب وافر من الاهتمام والتحقوا بأرقى الجامعات، فهذا ما استدعى كثيرا من المراقبين إلى المطالبة بدراسة هذه الحالة، ومعرفة الدوافع التي تقف خلفها، والأسباب المؤدية إليها.

أبناء الناجحين

البداية كانت في الثاني والعشرين من مارس الماضي، حينما صدم المجتمع السوداني بأن 12 طالبا يدرسون في إحدى كليات الطب الراقية في العاصمة الخرطوم بتنظيم داعش. وكانت المفارقة التي هزت الجميع هي أن 9 من أولئك الطلاب يحملون جوازات سفر بريطانية، حيث ولدوا هناك لآباء يعملون في وظائف مرموقة، بينهم محاضر في كلية الطب بجامعة أكسفورد، إضافة إلى ثلاثة من أبناء أسر سودانية عريقة ومعروفة، مالياً وسياسياً.

وقرعت حينها جهات عديدة أجراس الإنذار من تنامي ظاهرة التحاق أبناء وبنات الأسر السودانية التي تشكل حضورا في الساحة السياسية والاقتصادية والأكاديمية، وقالت إن هناك مخططا لاستقطابهم، خصوصا أن أولئك الملتحقين من الشباب أغلبهم من النوابغ والمبرزين علميا، ومن أسر مميزة على المستوى العلمي والسياسي والاقتصادي. وبعضهم من حملة الجوازات الديبلوماسية.

ومن ضمن أسماء الطلاب الذين غادروا الخرطوم للالتحاق بتنظيم داعش، طالب يدعى مأمون، والده من أشهر أطباء القلب المفتوح في بريطانيا، إلا أن المخابرات التركية أوقفته ومعه اثنان من زملائه، أما البقية ومن بينهم ابنة السفير لم يتم العثور عليهم.

وطبقا للمعلومات التي حصلت عليها"الوطن" فقد تم إلقاء القبض على إحدى الطالبات في تركيا، لكنها أنكرت أمر سفرها إلى العراق، وقالت إنها وصلت تركيا في رحلة سياحية، إلا أن والدتها التي تعمل طبيبة في بريطانيا طلبت اعتقالها حتى وصولها، حيث عادت برفقتها إلى السودان.

أسماء شهيرة

ومن بين الأسماء التي كشفت عنها السلطات ابن شقيق أحد أشهر رجال الأعمال في السودان، ويدعى عبدالباسط حمزة الذي يملك فندق السلام روتانا الشهير وسط العاصمة السودانية، إلى جانب كثير من الاستثمارات الضخمة.

وكشف مصدر أمني لـ"الوطن" – رفض الكشف عن اسمه - أن ابن رجل أعمال وسياسي شهير قد انضم إلى صفوف داعش، بجانب أحد أبناء طبيب يحمل درجة بروفيسور في الطب. وفجر المصدر مفاجأة من العيار الثقيل عندما قال إن أولئك الشباب سافروا إلى تركيا بعد تلقيهم تذاكر سفر على الدرجة الأولى من جهة مجهولة، وإنهم تزوجوا من "مجاهدات" عقب وصولهم، وإن جميع محاولات عائلاتهم لإعادتهم باءت بالفشل.

المفارقة الأخرى أن جميع الطلاب الذين التحقوا بصفوف داعش يدرسون في جامعة العلوم الطبية، المملوكة لوزير الصحة بولاية الخرطوم، مأمون حميدة.

الوطن سعت إلى الاستفسار من مالك الجامعة، أو أحد المسؤولين فيها، إلا أن مساعيها باءت بالفشل، حيث كان تلفون الوزير مغلقا باستمرار، بينما رفض أحد المسؤولين التعليق على الأمر، مشيراً إلى أن القضية برمتها في أيدي أعلى جهة أمنية في البلد، حسب تعبيره.

تحقيقات أمنية

وأضاف المصدر الأمني الذي يعمل ضابطا في جهاز الأمن والاستخبارات أن هناك شبهات قوية بوجود خلية داخل السودان تعمل على تجنيد أولئك الطلاب، وإلحاقهم بصفوف التنظيم المتشدد، مشيراً إلى توفر معلومات عن قيام الخلية بتوفير التأشيرات والتذاكر للطلاب الراغبين في الذهاب. وأكد أن هناك عددا من المشتبه بهم تم توقيفهم ويجري التحقيق معهم للوصول إلى الجهة التي يعملون لحسابها، ومصادر تمويلهم.

ويقول الأستاذ بكلية علوم المجتمع في جامعة الخرطوم، الدكتور محمد محجوب إن خلية تنظيم داعش داخل السودان تعمل على الاستفادة من الظروف التي يعيشها معظم أولئك الطلاب، مشيراً إلى أنهم يعيشون بمعزل عن عائلاتهم التي ما زالت في الخارج، خصوصا في بريطانيا، حيث يعاني هؤلاء من الوحدة والفراغ، وبالتالي يمكن استقطابهم بسهولة. وأضاف في تصريحات إلى "الوطن": "هؤلاء الطلاب لهم مشكلاتهم الخاصة بهم، فهم لا يعانون من ضائقة مادية، بل لهم فائض ربما لا يعرفون كيف ينفقونه، لكنهم ضحايا لخواء مجتمعي أصابهم بعد الانفصال عن عائلاتهم، فاستغل الإرهابيون هذه الفرصة، وبدأوا في تنمية جذوة التطرف بدواخلهم، وإيهامهم بأن الحياة الفعلية في القتال تحت راية التنظيم، "إعلاء لقيم الجهاد" كما يزعمون، كما استغلوا تربية هؤلاء الطلاب في دول غير إسلامية وبدأوا في زرع مفاهيم دينية مغلوطة بداخلهم، مستغلين ضعف ثقافتهم الإسلامية".

واستبعد محجوب إمكانية وجود مخطط لاستقطاب هؤلاء الطلاب، مشيراً إلى أنه لا توجد دوافع لمثل هذا العمل، وقال "هؤلاء الطلاب ليسوا هم المتفوقين وحدهم، بل إن هناك من الطلاب الذين تلقوا تعليمهم داخل السودان من يفوقونهم تأهيلا وذكاء، ومع ذلك لم يستطع أحد استقطابهم لصفوف المتشددين".

وطالب محجوب العائلات الموجودة في الخارج ببذل مزيد من الاهتمام والرعاية لأبنائهم، وعدم تركهم فريسة للمتشددين، واختتم بالقول "في السابق كان أبناء أولئك المرفهين يقعون ضحايا لعصابات المخدرات وإدمان الكحول، لكن يبدو أن الأمر تغير في الوقت الحالي، وباتت التنظيمات المتشددة هي الملاذ المفضل لهؤلاء".

 




..والخارجية السودانية تتعهد باستعادة الطلاب

كشف وزير الخارجية السوداني، إبراهيم غندور، عن تحركات تجري بالتنسيق مع سفارتي السودان بكل من أنقرة ودمشق، لاستعادة الطلاب السودانيين الذين غادروا الخرطوم، بهدف الانضمام إلى تنظيم داعش، وأعلن عن إجراء تحقيق حول كيفية مغادرة حاملة الجواز الديبلوماسي البلاد. وقال غندور في تصريحات صحفية بالبرلمان السوداني إن الطلاب الذين غادروا للالتحاق بداعش "رغم أن بعضهم يحمل جوازات سفر أجنبية، إلا أنهم سودانيون وأبناء الوطن، ولن يهدأ لنا بال حتى نستعيدهم مرة أخرى". وعن كيفية سفرهم وحدهم من مطار الخرطوم، دون أن يتعرضوا للاستجواب من أي جهة أمنية، قال غندور إن الأمر برمته أمام جهاز الأمن والمخابرات، الذي يجري تحقيقات موسعة في القضية، لمعرفة الكيفية التي سافر بها هؤلاء، لاسيما بعد ورود معلومات تؤكد أنهم غادروا دون المرور على صالة المغادرة الرئيسية.