(لا تنظري يا دميتي أخشى عليك من الغضب

فالغاصبون لبلدتي طعنوا الطفولة والأدب)

"كلمات الدكتور محمد الدوغان"

قبل أسبوعين عزف الموسيقي والمنشد الأستاذ خليل المويل لحنا صنعه للكلمات السابقة، وهي صورة انتشرت لطفلة بين دمار عربي الملامح تغطي عيني دميتها كما يفعل الكبار، ليحجبوا المناظر البشعة عن أعين صغارهم إلا أن الطفلة الكبيرة لم تكن تتجاوز سنوات طفولتها المبكرة التي تقتني الألعاب!

وكما خرجت الصورة الجميلة المعبرة من بين أنقاض الحرب المؤلمة خرجت الكلمات التي صنعت اللحن المعبر أيضا، ففي تلك الليلة الموسيقية التي شرف الأستاذ خليل المويل للمرة الناجحة الثانية ملتقى جمعية الثقافة والفنون بالرياض هذا العام، وكانت الجمعية تقدم أقصى ما تملك لنجاح حضور بهي للموسيقى المثقفة التي تقدم الكلمة الإنسانية بعد أن ارتبطت الموسيقى العربية في مراحلها المتأخرة خاصة بالإسفاف والأغاني الهابطة، وما يرافقها من صخب وضجيج يبعد عنها أصحاب الذوق الرفيع الباحثين عن جماليات المعنى. الموسيقى التي قدمها المنشد المويل تسجل موقفا حضاريا استدعى حضورا بهيا في الليلتين سافر بعضهم إلى الرياض خصيصا لها، وبقي الحضور نخبويا رغم أن الدعوة عامة!

كنت أقرأ الوجوه فأجد القاصة المبدعة وزوجها الدكتور، ومديرة المكتبة، وأساتذة وأستاذات من جامعاتنا ومهتمين بالثقافة من مختلف الفئات. حلق الأستاذ المويل بهم وسما بأرواحهم مع أسرار النغم التي بدأها بكلمة وفاء لشهداء الوطن في القديح وختمها بأغنية عائلية.

كانت تجربة المويل المتصلة مع الجمعية تجربة الخبير بفنه الممتع والمثري للعقول يعزف على أوتار الذائقة ويعزف عن الإسفاف ليقدم تجربة رائدة ورائعة يعيدك فيها لأساتذته الذين علموه وأهمهم مدرسة الشريف حيدر التي ينتمي إليها.

بعض الليالي والمناسبات تعلق بالذاكرة ولا يمكن نسيانها، وبعد تلك الليلة كانت ردود الأفعال الإيجابية تصل عنها حتى الليلة التالية بعد أسبوعين، حيث تسمع من همهمات الحضور ثناء متصلا.

الليلة التالية عن الشعر بين الأنسنة والأدلجة تناول فيها الباحث الأستاذ شايع الوقيان فكرة المعنى واللفظ والفصل بينهما، وانتصر للمعنى الذي يرى أنه يخسر الكثير عندما يكون مؤدلجا ويسمو بقدر إنسانيته. شايع الوقيان من العازفين المنفردين على أوتار العقل، يحملك معه ويوصلك لمبتغاه وهو يحول المعاني التي وصفها الجاحظ بأنها مطروحة في الطريق إلى جواهر وذوات محسوسة وملموسة، بل يحول أحجار المعنى إلى جواهر يحلي عقلك بها. لشايع الوقيان كتابان في الفلسفة التي انكب على قراءتها منذ شبابه المبكر، أيضا نال شايع حضورا بهيا وأجمل عبارة تقال في هذه المناسبة وتتكرر على مسامعنا هي "لم نتوقع أن يوجد نشاط بهذا المستوى الفكري في الرياض".

دعوني أحدثكم عن سر نجاح هذا الملتقى من باب إيضاح بعض ما يدور خلف كواليس الثقافة التي لا تظهر للبعيدين عنها، فقد كان الملتقى تابعا للنادي الأدبي وبقي نشاطا يشرف عليه الأستاذ الدكتور سعد البازعي مشكورا، وكان الهدف الذي وضعه أمامه أن يكون ملتقى للنقد، إلا أن الحضور تجاوز المهتمين بالنقد للمعنيين بالثقافة عامة، وفي نهاية عامه الأول وعند آخر ورقة كنت سأقدمها حدث سوء تفاهم جعل صاحب الملتقى ينتقل به من النادي إلى جمعية الثقافة، كونه ملتقى ثقافيا كان تمهيدا لانتقاله في هذا العام إلى جمعية الثقافة والفنون التي رحبت به ليرث مسمى الملتقى القديم الذي أسس في الجمعية قبل ثلاثة عقود.

لعلكم تعلمون أن صاحب الرؤية التي يعمل عليها بإخلاص ودون مقابل هو من ينجح في إيصالها دائما، ولذا كان انتقال الملتقى من النادي إلى الجمعية ابتعادا عن الصخب الإعلامي والإعلاني والتغطيات الصحفية التي نوه الدكتور سعد في حسابه بتويتر بأن بعضها كان تزييفا أو نقلا سيئا لما يطرح.

في النادي وفي الجمعية لم توجد ميزانية خاصة للملتقى ومن يحضر من المتحدثين لا يتقاضى أي مقابل، ومع هذا قدم الملتقى أسماء معروفة على مستوى المملكة كما أتاح الفرصة لأسماء شابة أن تعتلي المنبر ونجحت في ذلك.

من ضيوف هذا الملتقى العام الدكتورة هيفاء الفريح والدكتورة زهيّة جوير، والأستاذ عبدالعزيز العيد، والشاب المدهش عبدالكريم المطلق.

حقق الملتقى الاتصال الثقافي بين أجيال ثلاثة: روادنا الكبار ومثقفو اليوم وبواكير ثقافة الغد.

في وقت عجزت ملتقيات بميزانيات ضخمة عن ذلك وتحول أحدها كما قال أحد نقاده إلى مناسبة للأكل!

رواد الثقافة في العالم هم من ينفقون عليها وليس من يثرون منها حقيقة تبدأ بمؤلفي أهم الكتب في التاريخ وراسمي أغلى اللوحات، وتمتد لصناع الثقافة في كل مجال من معلم الرسم إلى باني الهرم إلى صانع القطعة الفنية في المتحف.

نسيت أن أخبركم أن ميزانية الملتقى التي لا تقدر بمال كانت ثمرة الجهود الرائعة من جمعية الثقافة والفنون برئاسة الأستاذ سلطان البازعي ومن معه من مبدعين كالأستاذ رجا العتيبي مدير فرع الرياض، والأساتذة فهد الروقي، ومعيض البحيري، ومحمود، وفاضل، وبشير، ومهدي، وكل منسوبي الجمعية الكرام جميعهم، فشكرا لهم على ما يفيضون به علينا من عطاء.

في ختام هذا المقال أقول إن الثقافة تبنى بالرواد فلماذا لا تكون أنت أحدهم؟