كان الجزء الأكبر من الارتباك الذي حصل في تلمس أسباب الإرهاب هو خروج هذا الفكر في الوسط "السني"، والشعارات السلفية التي رفعتها "القاعدة" ومن على شاكلتها في الفكر والمنهج، والترديد الكثير لنقولات التراث السني السلفي واختيارات علمائه الكبار من السلف والخلف، وهو أمر جعل الصورة تتوجه مباشرة إلى "اتهام" التفكير السني السلفي في خلق هذه الحالة الإرهابية، دون إعمال المنهجية العلمية التي تبين خلل هذه القراءة وعدم إدراك بعدها "الإسقاطي" وخلل التنازل لفئات كثيرة من المثقفين والمنتسبين إلى فضاء الفكر والاهتمام بهذا المشهد الجديد، وقد سبقت مناقشة هذه المسألة سابقاً في مقال بعنوان: (السلفية والداعشية، خلل القراءة والحرث في التراث).

إننا إن انطلقنا من القناعة بأن "الجماعات القتالية" الإسلامية المعاصرة هي جماعات "ذات طموح "سياسي"، ترفعه تارة باسم "الحاكمية"، وترفعه تارة باسم "الخلافة" وتارة باسم "قتال الطواغيت" تأسيساً على الرؤية "الخوارجية" التاريخية التي تكفر المسلمين وتستحل السيف في رقابهم، استطعنا أن ندرك كيف هي حركة "الاستقطاب" لأبنائنا في محاضن هذه الجماعات المتطرفة، التي تضرب على وتر الحشد العاطفي للنصوص والمعاني الكبيرة، والجهاد والفداء وعداء الغرب وإقامة الدين وتطبيق الحكم الإسلامي ومواجهة الطواغيت أتباع الصهيونية والصليبية العالمية، وهذه المعاني تؤثر أحياناً في الراشدين الذين رأينا فئاماً منهم تأثروا وانخرطوا في هذه الجماعات، فما بالكم بالشباب الصغار الذين تنقصهم التجربة والعلم والمعرفة وإدراك المصالح والمفاسد، والتعمق في فهم معاني الدين، ومقاصده الكبيرة، ومنهج أئمة الإسلام في العلم والعمل.

وإن شئنا أن نرتب هذه الجماعات ترتيباً يخضع للمستويات العليا والدنيا في تكوينها التنظيمي والهرمي فإنها برأيي على النحو التالي:

المستوى الأول: أصحاب المشروع، وهم القادة الكبار الذين يملكون من الوعي بالمخطط والهدم ورسم الاستراتيجيات، ويمكن أن يؤرخ لهؤلاء بتاريخ أقدم من تاريخ نشوء "القاعدة" مع جماعة الجهاد المصرية والجماعة الإسلامية التي كان ينتسب إليها كثير من قادة التنظيم العالمي لمواجهة الصهيونية والصليبية والذي تشكل سنة 1997 حين التقى أسامة بن لادن مع أيمن الظواهري في السودان، وتشاطرا الفكرة بتأثير متبادل بينهما، حيث اقتنعنا بأن التوجه إلى "عولمة مفهوم الجهاد" يتم من خلال ضرب رأس الحية "أميركا"، ومن ثم مواجهة الحكام كتبع لها، واعتمدا في ذلك على إسقاط شرعية كل الولايات القائمة بحجج "تكفيرية" كثيرة أدت في النهاية إلى استباحة الخروج والقتل والقتال وتكفير بعض المنتسبين لها.

المستوى الثاني: المنظّرون، وهؤلاء هم الطاقم "العلمي الشرعي" الذي كانت مهمته "تأصيل" منهج القاعدة والمنافحة عنه والرد على الخصوم، ودخل في هذا الإطار عدد كبير من المنظرين المصريين والأردنيين والسوريين والسعوديين، وكانت مهمتهم علمية تنظيرية تقنع الشباب بمسالك "القاعدة" المنهجية والشرعية، وهؤلاء هم الذين يمارسون حالة "الانتقاء" من التراث والنصوص والتاريخ ما يؤيد صنيع "القاعدة" في منهجها وحركتها، وهم يختلفون في مستوى العلم والتطرف والغلو، إلا أنهم في النهاية يعدون الضلع المهم في هيكلية التنظيم وحركته الفاعلة في أوساط الشباب، وقد استطاع هؤلاء الاستفادة من كثير من منتجات الخطاب الشرعي ومن أناس لا يحسبون على التنظيم إلا أنهم يقاربونه في التكفير والمنهج في قضايا كثيرة، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله، ويلاحظ عند هؤلاء التركيز الشديد على "إسقاط" شرعية الحكومة السعودية على سبيل التحديد وتوجيه الجزء الكبير من نشاطهم وحركتهم العلمية وخاصة كتاب "الكواشف الجلية في كفر الدولة السعودية" لأبي محمد المقدسي، إضافة إلى تقريرات عدد من المنظرين المحسوبين على هذا التيار كسيد إمام الشريف، وأبي قتادة الفلسطيني، وأبي بصير الطرطوسي، وناصر الفهد، وعلي الخضير، وأحمد حمود الخالدي -وإن كان هؤلاء الثلاثة قد أبدوا تراجعهم في لقاء شهير في التلفزيون السعودي- وغيرهم كثير ممن يعد من صنف المنظرين للتيار.

ويبدو أن هذه التيارات وخاصة "القاعدة" استفادت من بعض الخبراء العسكريين والنفسيين والاستراتيجيين الذين عملوا في بعض الجيوش العربية في مصر والجزائر والمغرب وغيرها في رسم استراتيجياتها الكبرى وحركتها وطريقة تعاطيها مع القوى الكبرى، واستفادت أيضاً من الدعم المباشر وغير المباشر من القوى التي تستخدم هذه التوجهات في النكاية بأعدائها، فالاستخبارات العالمية استطاعت أن تخترق هذه الكيانات ودوائرها الضيقة وأصحاب قرارها لتوجهها الوجهة التي تريد، وقد ظهرت تقارير كثيرة تشير إلى أن هناك عملاء لبعض الاستخبارات العالمية لرؤوس في تنظيم "القاعدة"، والمراقب يدرك الدور المحوري الذي تلعبه "إيران" في دعم هذه الجماعات وتوجيه حركتها بطرق مختلفة.

المستوى الثالث: الناشطون، وهم المجاميع التي تعمل للدعم اللوجستي والإعلامي والعسكري للتنظيم، وهؤلاء مجموعات كبيرة ناشطة في خدمة التنظيم عالمياً، ولهم أنشطة في الدعم المالي والتنظيمي، ولهم وجود ضخم  في الإنترنت على سبيل التحديد، ويعد الإنترنت المجال الأرحب والأوسع لاستقطاب الشباب لهذه التنظيمات، ويتبع هؤلاء مؤسسات إعلامية مهمتها الترويج للأفكار، ومحاولة التأثير والرد على ما يقال عن هذه الجماعات، وإنهاك الخصوم المفترضين معنوياً بالترهيب والتشويه، وبث المقاطع المؤثرة التي تهيئ النفسيات الشبابية للانخراط، ولذلك لا تعجب إذا وجدت أن "داعش" قد أنزلت حوالي 60 ألف مقطع في النت خلال السنوات الأربع الماضية، وهو عمل شاق ومضن ويحتاج إلى ميزانيات كبيرة، ودعم إعلامي، وخبرات فنية.

يتبع إن شاء الله..