أعتقد أنه لو كان الأمر بيد أبنائنا لتم مقاضاتنا على ما تم سرقته من طفولتهم، من أيامهم بعد ذلك داخل وخارج أسوار المدارس. ما نفعله بهم يخرج عن حدود التنمية والتطوير، بل قد يصل أحيانا إلى حد التدمير! ندفعهم دفعا إلى سباق الدرجات والعلامات والمستويات، وكأن الحياة نسب وتقديرات تتراوح ما بين الامتياز المرتفع إلى الرسوب! نريدهم أن يكونوا الأفضل والأذكى، ندخلهم إلى المدارس بسمات فطرية كشغف التعلم والخيال الواسع والإبداع، ثم نسحب هذا البساط من تحت أقدامهم تدريجيا ونحول عالم العلم الجميل إلى سباق إلى أين؟ إلى لا مكان!

لدينا خوف بل رعب من أن يفشل أبناؤنا في الحياة العملية، بأنهم لو لم يُجهزوا سيخسرون فرص الحصول على وظيفة أو مهنة تمكنهم من تكملة مسيرة الحياة، وإنشاء أسرة بمستوى معيشي عال إن لم يكن ممتازا، ونريد أن نحميهم بكل السبل المتاحة أمامنا، والمتاح هو السباق، ولكن السباق إلى ماذا، أهي الحياة؟! كلا، فالحياة ليست سباقا! ماذا إذن؟ إنها ما نطلق عليه مسمى "سوق العمل"! ولكن هل سوق العمل ينتظر درجات أم ينتظر قدرات ومهارات وقبلها سمات شخصية عملية وأخلاقية؟! إن من متطلبات هذا السوق، إضافة إلى القدرات والمهارات، الصدق والأمانة والتعاطف، والتكييف والإصرار، وغيرها مما لا نركز عليه بالتدريب والممارسة، فالوظائف كما تتطلب مهارات مثل التفكير الناقد وأسلوب حل المشكلات، تتطلب من يعرف كيف يتعامل مع الفشل كما يعرف كيف يتعامل مع النجاح، هذا إضافة إلى الشخصية المتزنة القادرة على التحكم الذاتي بالنفس، لأنه أحيانا نقاط القوة في الشخصية قد تتحول إلى نقاط ضعف؛ فمثلا لا يحتاج السوق شخصيات ذات تعاطف زائد لدرجة أن يشوش التفكير ويصبح الفرد ضحية للتلاعب والخداع، كما لا يتقبل شخصيات ذات إصرارا يصل إلى حد العناد، مما يحول الفرد إلى ماكينة تدوس على كل من حولها من أجل تكملة العمل أو تحقيق الأهداف.

ولكننا نضغط، ثم نضغط عليهم لينتجوا، وليس نحن فقط بل المعلمون والمعلمات ومن خلفهم وزارة التعليم، لتبنيها اختبارات قياس وقدرات ونسب العالية للسنة التحضيرية من أجل فقط الالتحاق بالتخصصات والكليات الجامعية!

إذن، ما الرسالة التي يتم إيصالها إلى أبنائنا؟ الدرجات أولا، الدرجات ثانيا، والدرجات دائما!

بمعنى أننا نضغط عليهم من أجل أرقام وليس من أجل التعلم بعمق وإدراك لما يتم تعلمه، بمعنى ما يحفز على التفكير يُدفع جانبا أو يُضحى به من أجل المطلوب تغطيته في المنهج، الذي هو بالمناسبة وصفة واحدة للجميع! ومتى يصبح الأمر كذلك؟ حين نطالب المعلمين والمعلمات بنسب نجاح وتفوق، ولا ننظر إلى نسب التحسن أو مدى التغير في شخصيات الطلبة والطالبات.

والغريب أننا لا ندرب الطالب على التعامل مع الفشل! مع أن الفشل جزء من التعلم في الحياة تماما كالنجاح، فإن لم يحصل على الدرجات المطلوبة تتحول نظرته إلى ذاته بأنه فاشل، هل هذا ما نريده؟ هل هذا ما نسعى إليه؟ بدلا من أن نتيح لهم الفرصة بالتجربة والمحاولة والخطأ، بدلا من أن ندربهم على كيفية التحاور مع أنفسهم في حالة الفشل، بحيث يسأل الفرد منهم نفسه: "أين كان الخطأ، كيف يمكن أن أتخطاه وأستفيد منه؟"، ندفعهم دفعا لسلوكيات غير صحية أو حتى أخلاقية في سباق الدرجات!

إن أبناءنا يدفعون الثمن، خلال الدراسة ومن ثم في سوق العمل، فإن فشلوا أو لم يتم لهم التحصل على الوظيفة التي تم تأهيلهم لها، الكثير منهم يتجمد ولا يعرف كيف يتعامل مع هذا الظرف، لا يعرف كيف يدرس صفاته ومهاراته وقدراته في البحث عن وظيفة في مهنة قريبة أو حتى مؤقتة إلى أن يجد ما يريد، أو ربما في معترك الحياة قد يجد أن لديه قدرات إبداعية في مجال آخر، مما يساعده على أن يخلق لنفسه مصدر رزق... وبدلا من ذلك يطلقون على أنفسهم "عاطلون عن العمل"!

ما سبق يدفعنا إلى أن نعيد النظر لما نسميه "التعليم" عندنا، فمستقبل الوطن الاقتصادي وأمنه الاجتماعي يعتمدان على كيفية معالجة هذه القضية والتعامل معها، يجب أن نخرج من المفهوم الضيق بأن منهجا واحدا يصلح للجميع، فمثلا نستطيع أن نترك الصلاحية للمدارس بأن تقوم بالدراسات بالتعاون مع طلبة الدراسات العليا ومنسوبي تلك المدارس من الهيئة التعليمية والإدارية والإرشادية، بمعنى حسبما يقتضي مجال الدارسة، في إيجاد حلول لقضايا تعد مهمة ومعاصرة بالنسبة للمدرسة المعينة، كما نحتاج إلى أن نعيد تعريف ما يعنيه "النجاح في الحياة"، بحيث يكون العمل جماعيا يشارك فيه جميع المعنيين من المختصين إلى الأهالي إلى الشرائح الممثلة لمكونات سوق العمل، وأخيرا يجب أن نفكر وبعمق في العمليات التي ستخرج لنا الشخصيات التي تمتلك الدافعية والقدرات الإبداعية التي تمكنهم من الولوج إلى الحياة بثقة وإرادة، شخصيات لا تربط تعريف النجاح بحجم الحساب المالي في البنوك، بل بنوعية التوازن والسلام الأسري والتفاعل الاجتماعي الإيجابي.