كشف انسحاب عناصر ميليشيات الحوثي وقوات الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح، وهربها من ضواحي وأحياء مدينة عدن، على وقع ضربات المقاومة وهجمات عملية "السهم الذهبي" التي أطلقها التحالف العربي أخيرا، فداحة الجرائم التي ارتكبتها الميليشيات المتمردة بحق المدينة وسكانها الذين كانوا يعيشون مأساة حقيقية.

وبدت أحياء بأكملها في مناطق التواهي وكريتر والمعلا والقلوعة مُدمرة بصورة شبه كاملة وفاقدة لكل معالم ومعاني الحياة، فيما بدت بعض المنازل والعمارات السكنية المحروقة والمدمرة جزئيا وهي خالية من سكانها وكأنها منازل أشباح، بعدما غادرها سكانها هربا من بطش الميليشيات المسلحة التي لم تكن تُميز بين المدني والمقاتل.


حرق مئات العمارات

وقالت تقارير حقوقية إن نحو 90% من سكان مدينتي كريتر والتواهي نزحوا عنهما بعد سيطرة الحوثيين وقوات صالح عليهما، صوب المديريات الأخرى التي يتوافر بها ولو قليل من الأمان أو التوجه صوب محافظة حضرموت شرق اليمن. ويُشكل هؤلاء النازحون من هاتين المدينتين أكثر من 300 ألف نسمة.

وظهرت في شوارع المدينة المُحررة كثير من الجثث التي بدأ بعضها في التحلل والتعفن كما هو الحال في أحياء مدينة خور مكسر، حيث وجه مجلس قيادة المقاومة نداء للجنة الصليب الأحمر الدولي برفع جثث الحوثيين المنتشرة في الشوارع، وكذلك وجد كثير من المركبات المُدمرة، فيما أطلت على طول الطريق المؤدي إلى "كريتر" مئات العمارات المحترقة والفلل والقصور المدمرة بالكامل.

وقال نسيم الأحمدي، وهو أحد أوائل المُقاتلين الذي دخلوا حي كريتر ضمن كتيبة الاقتحام في المقاومة الجنوبية، إنه لم يُصدق ما رآه في الوهلة الأولى، من دمار وخراب للحي الذي ولد وترعرع فيه، لافتا إلى أنه احتاج لبعض الوقت حتى يستطيع التعرف على الطريق الذي يجب عليهم أن يسلكوه كونه كان بمثابة مرشد للكتيبة، مُعللا ذلك بالقول إن القصف الذي تعرضت له المدينة والهجمات الصاروخية التي شنها المُتمردون دمرت وطمست كثيرا من معالمها.

فيما أشار أحمد العولقي إلى أنه حينما سمع بتحرير "كريتر" سارع إلى العودة لمنزله ليتفقده غير أنه وبحسب قوله لم يجد سوى كومة كبيرة من الركام، مبينا أنه علم بعد ذلك أن الحوثيين عمدوا لتفجير منزله بعد أن علموا أن أخاه ضمن صفوف المقاومة.

وأضاف أنه وبصعوبة كبيرة استطاع إخراج عائلته من المدينة بعد أن سيطر عليها الحوثيون، حيث كانوا يمنعون الناس من الخروج منها، وذلك للاحتماء بهم كدروع بشرية، متحدثا عن أن بعض العائلات لم تستطع المغادرة إلا بعد أن دفعت رشاوى لهم من أجل السماح لها بالخروج. ولفت إلى أنه سمع أن بعض العائلات التي لم تكن تمتلك شيئا تدفعه للجنود أُجبر بعض أفرادها على أن يظهروا على شاشة قناة المسيرة الفضائية التابعة للحوثيين ليُشيدوا بدور الميليشيا في حماية السكان، وذلك مقابل السماح لهم ولعائلاتهم بالمرور.


تدمير أقدم المدن

وتعد مدينة "كريتر" واحدة من أقدم مدن "عدن" وتحوي الكثير من المعالم الأثرية والمباني السكنية القديمة ذات الطراز المعماري المُميز والفريد التي يعود تاريخها لحقبة الاستعمار الإنجليزي لجنوب اليمن "1839 – 1967"، لكن تلك المعالم نالت نصيبها من الدمار والخراب على أيدي مُسلحي الجماعة المُتمردة، ومن بين تلك المعالم المكتبة الوطنية بعدن "مكتبة الفقيد باذيب" التي تضم بداخلها الآلاف من الكتب القديمة والأرشيف الثقافي الريادي للمدينة، وكذلك مبني الضرائب الذي كان يضم في فترة ما قبل الاستقلال مدرسة داخلية لليهود في المدينة. وبحسب بعض التقارير التي قدمها بعض النشطاء المدنيين في عدن فإن أشهر المباني التي اقتحمها الحوثيون واتخذوها كثكنات عسكرية لهم في "كريتر" قبل تحريرها البنك الأهلي اليمني، كما اقتحموا المتحف الحربي، ومبنى المكتبة الوطنية، وشرطة كريتر، والبنك المركزي اليمني، ومقر حزب الإصلاح، ومبنى رامبو، ومسجد الشنقيطي الذي حولوه إلى سكن لهم.

وأدى تمركز الانقلابيين في الأحياء والحارات ذات الأزقة الضيقة التي تتميز بها الأحياء العتيقة بعدن، إلى تدمير شبه كامل لمنظومة الإمدادات الكهربائية والمياه والاتصالات، حيث أدى القصف المدفعي للحوثيين إلى تضرر الكابل الرئيس الذي يغذي كريتر والمعلا والتواهي وخور مكسر بالكهرباء منذ تاريخ 29 أبريل.

وقال عاملون في مؤسسة الكهرباء إنه ومنذ ذلك التاريخ والمدينة الحارة تعيش في ظلام دامس، وإن إصلاح الكابل لا يعني بالضرورة إعادة الكهرباء إلى المناطق المحررة نتيجة لتدمير أعمدة نقل الطاقة والتمديدات الكهربائية في تلك المناطق، وإن إصلاحها سيتطلب وقتا طويل وإمكانات مالية كبيرة جدا. والأمر مُشابه بالنسبة لخدمات الاتصالات والصرف الصحي ومياه الشرب التي بات الحصول عليها صعبا.

وبحسب شهادة قدمها موظف حكومي يدعي سالم عثمان لـ"الوطن"، فإنهم وطوال الفترة التي قضوها تحت رحمة الميليشيات الحوثية كانوا محرومين من الحصول على رشفة ماء باردة، بسبب الحصار المفروض عليهم من الحوثيين، وإن توافرت فهي بأسعار خيالية. وأضاف "وفي المقابل كنا نراهم - أي الحوثيين- وهم يشربون المياه الباردة ويتناولون القات في نهار رمضان.


قصف عشوائي بالمعلا

على الجانب الآخر، لم يختلف مشهد الدمار والتخريب والمعاناة كثيرا في أحياء مدينة "المعلا" التي تحوي ميناء عدن الرئيس، وإحدى المدن الاستراتيجية في جنوب البلاد.

وقالت الدكتورة سلينا اليزيدي، وهي طبيبة تقطن في المدينة، إن أعمال القصف العشوائي التي طالت مساكن الأهالي وقامت بها القوات الموالية للحوثيين كان لها النصيب الأكبر في صنع الدمار الذي طال المدينة، مُشيرة بذات الوقت إلى أن الإرهاب الذي مارسته من وصفتهم بـ"الغزاة" لم يقتصر على تدمير المدينة ومعالمها ومؤسساتها بل طال كذلك إرهاب السكان المحليين وقتل العشرات منهم إما بطريقة القنص المُتعمد أو من خلال إطلاق القذائف العشوائية التي حصدت أرواح المئات من المدنيين بينهم نساء وأطفال، أو من خلال حرمان الناس من الحصول على العلاج.

وكانت تقارير طبية في المدينة المُحررة أكدت أن سيطرة الميليشيات الحوثية وقوات صالح على مستشفى الجمهورية الذي يُعد أكبر مشافي مدينة عدن في وقت سابق وهروب الكوادر الطبية ونزوح المرضى منه أدى إلى خلق ضغط شديد على ما تبقى من مشافي المدينة الثلاثة وهي "مستشفى 22 مايو بالمنصورة، ومستشفى النقيب بخور مكسر، ومستشفى بيبي بالبريقة" التي كان الحوثيون يحرصون على منع وصول أي إمدادات طبية أو محروقات إليها تُساعد في عملها في سياسة عقابية لا إنسانية. وبحسب تلك التقارير فإن استخدام الميليشيات العديد من المستشفيات والمراكز الصحية كثكنات عسكرية تسبب في تعرضها لأضرار كثيرة، فيما أشار تقرير لوزارة الصحة اليمنية إلى توقف خدمات التحصين في أربع مديريات في عدن، كما بات مرضى الأطفال المصابون بأمراض السرطان يواجهون خطر الموت بسبب نفاد الأدوية الخاصة بهم.

ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل طالت التعسفات التي نفذتها الميليشيات المُندحرة، عمال النظافة الذين لم يستطيعوا أن يقوموا بأعمالهم في المديريات التي كانت تُسيطر عليها، ما أدى إلى تراكم أكوام القمامة في جميع أحياء المدينة وشوارعها لأكثر من شهرين، ما ساعد على انتشار كثير من الأمراض والأوبئة في المدينة وتفش كبير لأمراض الملاريا وحمى الضنك، وفقا لما ذكرته وزارة الصحة اليمنية التي اعترفت أنها لم تتمكن بعد من تجديد نوعية بعض الأمراض والأوبئة نتيجة لتوقف نظام الترصد في عدن عن العمل جراء الأوضاع الأمنية والمعارك الدائرة بين الأطراف هنالك.

الحوطة بدون سكان

أما مدينة "الحوطة" أجمل مدن محافظة لحج الجنوبية ومركزها الإداري، والتي تغنى بها كثير من الشعراء اليمنيين، فقد باتت مجرد مدينة لا تحتوي إلا على أكوام المباني والمؤسسات المُدمرة. باتت "مدينة أشباح" خالية من سكانها وفقا لتعبير الصحفي صدام اللحجي، الذي قال في حديثه إلى "الوطن" إن الدمار طال كل شيء في المدينة، وإن المُتمردين غالبا ما يمنعون الأهالي من العودة للمدينة ومطاردة من تبقى فيها، خصوصا من أقارب وعائلات المنخرطين في صفوف المقاومة، إضافة إلى الحصار الخانق الذي يعيشونه وعدم وصول أي معونات غذائية أو طبية لمن تبقى من الأهالي بداخلها. ورغم حجم المأساة والمعاناة التي يعيشها سكان مناطق جنوب اليمن، إلا أنه ومع ذلك يُدهشك إصرارهم على الحياة وحتى إن كانت تلك الحياة في أحياء مُدمرة لا يوجد بها أي مقومات الحياة. كما تجد الشعارات والرسومات الزيتية الداعمة للمقاومة التي يرسمها الأطفال وبعض الفنانين التشكيليين من أبناء المدينة على بقايا المنازل المدمرة، وشعارات الإصرار على الحياة وسط الدمار.