إن كانت التجربة تتجوهر في سياقها الزماني، فإنها في مكانها تلقي بالرسوم والظلال والأضواء، وتبقى الأقدار معطلة عن استحضار التجارب مجسدةً متى عفت ودرست، إلا من إصرار إرادة فارس يخرج التجربة من سياقاتها ليضعها في المطلق، بخيال متسعٍ رحب الفضاء، ذلك مجمل مايتراءى في سوق عكاظ ، إذ فارس الثقافة والفكر خالد الفيصل يهب وعياً بالتاريخ مستعاداً متقداً، يطلقه من زمان داثر إلى آن حاضر، فيشعله وهجا مشرقا لكأنما يُبعث فيه الناس والأشياء مرتين، ويستمر الإيحاء صعوداً يمتد من وحي الماضي لغدٍ يتراءى تسامق الإرادة العليا والهدف الأسمى.

في سوق عكاظ لا تجد تناقضا بين المثقف والسياسي اللذين يبدوان -غالبا- كقطبين متنافرين، فالمثقف الذي يدير أجواء عكاظ هو ذاته صاحب السلطة السياسية الأمير خالد الفيصل "الرسام والشاعر" مما يولّد ائتلافاً يصنع اكتمال الصورة وارتباطها بالواقع، ويغني المتسوق بالتنوع الثقافي والفكري، إلى جانب فنون الشعر والأدب التي تسقي حلاوتها المرتادين الباحثين خلف سياحة غنية وتجربة ثرية.

أثناء انطلاقك في جادة عكاظ يتملكك إحساس بعذوبة الناس والأشياء، تمنحك لحظة إشراق داخلية ونفاذا في الرؤية لتبلغ مناطق من الدلالة والمعنى لم تكن لتبلغها لولا توهجها المتقد بإتقان الفنان ووعي المثقف وإدراك الأريب، ففي الجادة يمثل الشعر ديوان العرب ومساجلاتهم وتفاصيل حياتهم، فتستمع لشاعر عكاظ قديما يرتجل وحي اللحظة بآنيتها وطبيعتها وفطرتها، ليرسم للحب قيمة سامقة تمضي بوحي أنساغ الحياة والنماء، يوثقه اسما ورسما، بصبوة حب صادق جاهزٍ لعطاء لايبيد

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل وإن كنت قد أزمعتِ صرمي فأجملي

أغرك مني أن حبك قاتلي وأنك مهما تأمري القلب يفعلِ

وترتسم في وسط الجادة تموجات البيد مع جلبة المتسوقين، وصوت قوافل المسافرين، وسباقات الخيول ، ومبارزة الخيالة، في لوحة آسرة ترتسم أمام ناظريك بشخوصها وأزيائها وأنماطها وفنونها، ويرتفع صوت امرؤ القيس متولهاً بالشجاعة من أعماق المشهد:

وقد أغتدي والطير في وكناتها بمنجرد قيـد الأوابـد هيكل

مكر مفر مقبل مدبر معا

كجلمود صخر حطه السيل من عل

ويأسرك امتزاج الجزئيات في اندفاع الشجاعة لدى عنترة بمشاعر المحب المتيم، ينثره إقداما يبعد في مداه ليرسم صورة منزهة يقدمها الشاعر لسيدة قلبه عربون محبة تنزع للصفاء وترنو للعطاء:

يادار عبلة بالجواء تكلمي وعمي صباحا دار عبلة واسلمي

دار لآنسة غضيض طرفها طوع العنان لذيذة المتبسم

هلا سألت الدار ياابنة مالك إن كنت جاهلة بما لم تعلمي

يخبرك من شهد الوقيعة أنني أغشى الوغى وأعف عند المغنم

وأمام صبوة المتشبب بالحب الماثلة لايملك المرء إلا التساؤل :ترى من الذي حجب نور الحب بدخان الجحيم، ورمى اتقاد إبداعه بحجر العار؟!

يزداد فضاء السوق اتساعا بما يحيط بأطرافه من خيم صغيرة، تحوي بضائع شعبية وحرف يدوية، تقع بينها لوحات صخرية نقش عليها أبيات شعرية، وتتربع وسط الجادة خيمة عكاظ البديعة لاستقبال الأمسيات الشعرية والندوات الثقافية والنقدية، المستوحاة من قبة النابغة الذبياني الحمراء التي تضرب له ليستقبل الشعراء؛ رجالا ونساء، وقد أفردت لشاعر السوق هذا العام (الفتى القتيل) طرفة بن العبد مسرحية جميلة تحمل رموزا جريئة لعل أبرزها علاقة المثقف بالسلطة، وإن لاقت نقدا أهمه إغفالها الكشف عن جوانب الشاعر الإنسانية، وبعض الملاحظات الفنية.

مجاوزة لما للسوق من دور كواجهة ثقافية وحضارية واقتصادية لوطننا، يبرز جانب إنساني هام يسعى لسبر أغوار اللاوعي لنزع الصور المشوهة لعلاقة الرجل بالمرأة، والتي أدلجت ردحا من الزمن رهباً وخوفاً، ونقلها إلى مناطق أنسنة أرقى وأعمق، ورغم منع اللجنة صعود النساء المشاركات على المسرح، إلا أن الفائزة بجائزة التصوير الضوئي تحت سن 18 "بيان أحمد بصري" صعدت تستلم جائزتها من أمير عكاظ، ويحدونا الأمل باتساع دائرة الأنسنة لتتعدى المطالبة بصعود المشاركات على المنبر، إلى المشاركة الحقيقية في اللجان الفاعلة المتعلقة باتخاذ القرار، سيما والمثقفة السعودية تملك الكفاءة والجدارة في شتى مجالات الثقافة والأدب، ما يهبها حق الانضمام للجان التحكيم والإعداد والتقييم المعنية بتقييم المشاركات واختيار الضيوف والأنشطة، وهو مانطمح أن تشمله الرؤية التحضيرية القادمة للسوق.

جاءت جائزة شاعر عكاظ نصيب اللبناني شوقي بزيع إلا أن الشاعر السوداني محيي الدين الفاتح كان حضوره طاغياً لدى متذوقي الشعر والأدب، لا أخفي أنني كنت منهم، وتمنيت لو حاز اللقب والجائزة عن قصيدته "النخلة" لامتلاكها رمزية فارقة للوجود والكون، وقيم باهضة جسدها بنبل الفنان ووحي الإنسان، وتمنيت لو تعددت الجوائز لتشمل المبدع السعودي في فنون الأدب، فنرى الروائي المبدع الحائز على جائزة بوكر العالمية "عبده خال" مكرماً تحت قبة خيمة عكاظ ، متوشحاً ببردة الرواية، علها تسجل ضمن الرؤى المستقبلية.

نجاح السوق كان باهراً وإن مازجه هنّات هنا وهناك، وطموح فارس عكاظ خالد الفيصل لايقف عند ماتحقق، فهو لايريده سوقاً يكتفي بتجسيد الماضي في الحاضر إنما "ما أهدف إليه أن يكون هناك معارض للكتاب والتقنية والصناعات الحديثة، أريد سوق عكاظ سوق القرن 21"

ربما من الأهمية أن نعلم أن سوق عكاظ استمرت قرونا عديدة، امتدت تقريباً حتى سنة 129هـ،إلا أن صاحب الفضل الأول في اكتشاف موقع السوق "حديثاً" في الطائف هو فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى، فهل يستغرب بعد هذا نبوغ الشبل من سلالة الأسد!