تكلمت في الجزء الأول من المقالة عن بدعة الإعجاز العلمي في القرآن، وأنه شيء لم يعرفه السلف الذين نزل القرآن بلغتهم التي بها يتخاطبون، والتي بها وبمعانيها –لا بغير ذلك– يُفهَم القرآن الكريم، وأوضحت أن القرآن الكريم ليس كتاب فيزياء ولا كيمياء ولا غيرهما من العلوم، وما فيه من آيات بينات إنما هي لبيان عظمة الخالق سبحانه وتعالى لا لإثبات شيء علمي أو حتى الحديث عن تفاصيله، فحقائق القرآن أبدية مطلقة، وحقائق العلم تاريخية متغيرة. وبينت أن كل المكتشفات العلمية والاستنتاجات قابلة للتفنيد والتغيير وليست معطى ناجزا، وأنه حتى لو سلّمنا أن مكتشَفًا علميًّا قد أنجز وفُرغ منه ولم يعد مجالا لأن يجري عليه أي تبدّل؛ فالقطع بأن هذه الآية أو تلك تنطبق عليه بعينه هو زعم دونه خرط القتاد، ولا يمكن البرهان عليه بما لا يقبل شكًا.
وفي هذه المقالة أبيّن أقوال بعض كبار أعلام المسلمين ممّن انتقد هذه الدعوى، وحذّر منها، فمن أولئك مثلاً حسن البنّا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، ذكر المؤرخ الإخواني محمود عبد الحليم -وكان عضوا في مكتب الإرشاد تلك الأيام- في كتابه الشهير (الإخوان.. أحداث صنعت التاريخ)، ذكر حوارًا جرى بين حسن البنا وطه حسين حول كتاب الأخير (مستقبل الثقافة في مصر) الذي انتقده حسن البنا، فكان مما اعترض به حسن البنّا على طه حسين أن قال: "إنكم تنادون بأن يكون الدين في خدمة العلم، وهو الرأي الذي تقوم عليه الحضارة الحديثة في الغرب.. وهذا الرأي خاطئ لأن معناه أنه إذا اصطدم الدين مع العلم في أمر من الأمور نبذ الدين واتخذ العلم دينا. يجب الفصل بين العلم والدين، لأن الدين حقائق ثابتة والعلم نظريات متطورة، فإذا ألبسنا العلم ثوب الدين جمدنا العلم، وإذا نحن أخضعنا الدين للعلم، فلسفنا الدين فأخرجناه بذلك من طبيعته ولم يعد دينا".
والشاهد في هذا النص هو قول حسن البنّا: "يجب الفصل بين العلم والدين، لأن الدين حقائق ثابتة والعلم نظريات متطورة.. إلخ". وهذا بالضبط هو ما يفعله الإعجازيون، إنهم يمزجون العلم الطبيعي الذي شأنُه التغير والتبدّل بحقائق الدين المطلقة الثابتة.
من أولئك الأعلام كذلك الذين حذروا من هذا المسلك مسلك الإعجازيين وبينوا خطره الأستاذ سيّد قطب، إذ يقول: "هذا الذي أثبته العلم لا يجوز أن يؤخذ على أنه التفسير الحتمي للنص القرآني. فقد تكون الحقيقة القرآنية تعني هذا الذي أثبته العلم، أو تعني شيئا آخر سواه. وتقصد إلى صورة أخرى من الصور الكثيرة التي يتحقق بها معنى خلق الإنسان من تراب، أو طين أو صلصال".
والذي ننبه إليه بشدة هو ضرورة عدم قصر النص القرآني على كشف علمي بشري، قابل للخطأ والصواب، وقابل للتعديل والتبديل، كلما اتسعت معارف الإنسان وكثرت وتحسنت وسائله للمعرفة. فإن بعض المخلصين من الباحثين يسارعون إلى المطابقة بين مدلول النصوص القرآنية والكشوف العلمية- تجريبية أو افتراضية- بنية بيان ما في القرآن من إعجاز. فالقرآن معجز سواء طابقت الكشوف العلمية المتأرجحة نصوصه الثابتة أم لم تطابقها. ونصوصه أوسع مدلولا من حصرها في نطاق تلك الكشوف القابلة دائما للتبديل والتعديل، بل للخطأ والصواب من الأساس! وكل ما يستفاد من الكشوف العلمية في تفسير نصوص القرآن، هو توسيع مدلولها في تصورنا كلما أطلعنا العلم على شيء مما تشير إليه إشارات مجملة من آيات الله في الأنفس والآفاق، دون أن يحمل النص القرآني على أن مدلوله هو هذا الذي كشفه العلم. إنما جواز أن يكون هذا بعض ما يشير إليه".
فالمسألة لا ينبغي أن تكون أكثر من كونها مجرد استئناس، دون قطع ودون دعاوى ما يسمى الإعجاز العلمي.
وممن حذر من مسألة الإعجاز كذلك العلامة ابن عثيمين، إذ يقول: "إن المغالاة في إثبات الإعجاز العلمي لا تنبغي؛ لأن هذه قد تكون مبنية على نظريات، والنظريات تختلف، فإذا جعلنا القرآن دالاًّ على هذه النظرية، ثم تبين بعد أن هذه النظرية خطأ، معنى ذلك أن دلالة القرآن صارت خاطئة، وهذه مسألة خطيرة جدًّا. ولهذا أعتني في الكتاب والسنة ببيان ما ينفع الناس من العبادات والمعاملات، وبين دقيقها وجليلها حتى آداب الأكل والجلوس والدخول وغيرها، لكن علم الكون لم يأتِ على سبيل التفصيل. ولذلك فأنا أخشى من انهماك الناس في الإعجاز العلمي وأن يشتغلوا به عما هو أهم. إن الشيء الأهم هو تحقيق العبادة؛ لأن القرآن نزل بهذا".
ورابع هؤلاء الأعلام هو الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصيّن -يرحمه الله، إذ يقول: "لا شك أن البحوث الجديدة في ما يسمى (بالإعجاز العلمي للقرآن) ومقارنة الحقائق العلمية المكتشفة حديثاً بنصوص القرآن، تهدي إلى معلومات نافعة، وقد يكون بعضها صالحاً ليعتبر ضمن مفهوم الآية الكريمة:{سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} [فصلت:53] كما إنها تعطي إمكانية لفهم جديد للنص، لم يلحظه المفسرون من قبل.
ولكن يرد على المبالغة في هذا الأمر ملحوظتان:
أ. أن المسلمين منذ العصر الأول للإسلام فهموا النص القرآني على وفق تصوراتهم وهذا الفهم يحتمله النص في الجملة حتى لو نوزع في أن غيره أرجح منه وإذًا فلقائل أن يقول: "لماذا لا يكون هذا المفهوم الذي فهمه السابقون -مادام لا يخالف الحقائق العلمية- هو المقصود بالنص؟"
ب. في هذا العصر يدخل في الإسلام (يهتدي) المفكرون والمثقفون والأشخاص العاديون فكم نسبة من اهتدى من هؤلاء للإسلام عن طريق الاقتناع ببحوث الإعجاز العلمي للقرآن؟ لا شك أنها نسبة قليلة، أما الكثيرون فقد اهتدوا للإسلام عن طريق اقتناعهم بسمو قيمه، وبحكمة تشريعه".
وهكذا يهوّن الشيخ صالح الحصين -يرحمه الله- من شأن هذا الإعجاز ويقول –وهو المطلع المهتم بشؤون علاقة الإسلام بالغرب– "إن نسبة من يهتدون بسبب الإعجاز العلمي نسبة قليلة؛ مقارنة بهؤلاء الذين يسلمون بسبب ما في القرآن من قيم سامية، وتشريعات حكيمة.
وبعد، إن الحديث في هذا الموضوع يستحق سلسلة مقالات؛ إذ الأمر لا يقتصر فقط على المبالغة فيه، بل على أضراره على طريقة تفكير المسلمين من جهة، وكيفية قراءتهم للنص القرآني من جهة، ولعلها تسنح فرصة لتوسعة الحديث في هذا الموضوع المهم والإفاضة فيه بتفصيل أكبر".