تؤدي الرواية وظيفة إبداعية وجمالية مهمة، بالإضافة إلى وظائفها الأخرى في تقديم الرؤى، وعكس صورة المجتمع، والاستجابة لأصواته المتعددة.

وتنشط الرواية في المجتمعات التي تشهد تحولات اجتماعية، وتطورات سوسيولوجية، ونَقَلات فكرية، وأطروحات إيديولوجية.

وقد دشنت الرواية السعودية حضورها الأول في منتصف القرن الهجري الماضي متزامنة مع نشأة الدولة السعودية الحديثة.

وكانت بداية الرواية بداية خجولة مواربة تعتمد الصوت الواحد والرؤية المحدودة، لم تسعفها الأدوات الفنية إذ ذاك في تشكيل عمل إبداعي مميز، كما لم يسعفها المجتمع بقبول هذا اللون التعبيري الجديد على البيئة الشعرية السعودية.

وانتظرنا عقدين من الزمان حتى ظهرت الرواية السعودية الناضجة فنيا في (ثمن التضحية) لـ(حامد دمنهوري). ثم توالت الأعمال الروائية ترافقها أعمال نقدية تقيّم وتقوّم، حتى بزغ القرن الهجري الخامس عشر الذي شهد طفرة اقتصادية أحدثت تحولات اجتماعية مفصلية، وقد واكب ذلك كله حركة روائية موّارة أذهلتها هذه التغيرات والتحولات، فطفقت توثق، وترصد، وتستشرف: توثق ذكريات الماضي، وترصد تحولات الحاضر، وتستشرف تطورات المستقبل.

وبعد عقدين من الزمان – وفي مطلع القرن الحادي والعشرين الميلادي - هزت العالمَ صراعاتٌ إيديولوجية فجّرها تفجير برجَي (نيويورك)، وتفجرت إثر ذلك ينابيع الرواية، فهذا زمانها، وتلك حلبتها، وذلك مسرحها، وانعكست تلك المقولات الفكرية والأطروحات الإيديولوجية على صفحات الرواية السعودية التي ما فتئت تسائل تلك المقولات وتقلب تلك الأطروحات على وجوهها.

وعلى الرغم من كل تلك الأحداث والتحولات إلا أن الرواية السعودية تعود من جديد إلى مضمارها الأثير، مضمار التحولات الاجتماعية، ولكن هذه المرة تحولات اجتماعية على خلفيات فكرية بعد أن كانت تحولات الطفرة السابقة على أساس اقتصادي.

ومنذ العام 2001 ظهر عددٌ من الروايات التي تحاول أن تسائل كثيرا من الظواهر والممارسات في مجتمعنا السعودي.

ولعل أبرز خصائص روايتنا السعودية التصاقها الشديد بواقعها المحلي. كانت هذه الخاصية منذ نشأة الرواية السعودية وما تزال حتى يومنا هذا! وحتى تلك الروايات ذات الصبغة الإيديولوجية نجدها تنطلق من الواقع المحلي وتعود إليه، ولعل كتّاب الرواية والكاتبات ما زالوا يشعرون أن في هذا المجتمع أصواتا لمّا تسمع.

ومن الملحوظات حول المرحلة التي تشهدها الرواية السعودية منذ مطلع هذه الألفية تكاثر الروايات وتعدد الأسماء الروائية التي يكتب الكاتب منها أو الكاتبة رواية واحدة لم يسبقها حضور أدبي ولم يعقبها نتاج آخر ثم يغيب غيابا طويلا، وكأنّ هناك كلمة يريد أن يقولها، أو سرا يريد أن يُفشيه، أو سترا يريد أن يكشفه ثم يعبر!

ولئن كانت الرواية السعودية في مراحلها المتقدمة قد عانت ضعفا فنيا قد يكون له ما يسوغه - أو على الأقل ما يفسره - فإن هذا الضعف الفني ما يزال يجلل كثيرا من الروايات في هذا العقد الأخير من الزمان! ولعلّ مرد ذلك إلى أن كتابا وكاتبات استسهلوا ركوب مركب الرواية قبل أن يكون لهم من العدة الفنية، وخبرة الحياة ما يؤهلهم لركوب هذا المركب الصعب!

أربعة أركان – من وجهة نظري - لا غنى عنها لمن يريد خوض غمار الرواية:

العدة الفنية، والحصيلة اللغوية، والتجربة الحياتية (ولا تعني بالضرورة التقدم في السن)، والرؤية المميزة.

إن الرواية ليست مجرد حكي، أو عرض أحداث، أو كشف أسرار، أو إسداء توجيهات! إن الرواية عمل فني يُبنى لبنة لبنة، ويتقدم خطوة خطوة، ويُنسج سَداةً بعد أخرى.

وأزعم أن المتلقي يشارك المبدع جزءا من المسؤولية الأدبية والفنية، فالمتلقي الناضج الواعي يضطر المبدع إلى أن يكون في أفقه وعيا ونضجا وإبداعا. أمّا حين يكون المتلقي متلهفا على كشف المستور باحثا عن الإثارة لمجرد الإثارة فإن المبدع سيخاطب المتلقي بما يستهويه!

أتطلع إلى أن يكون لنا في أدبنا السعودي من بعد هذه الطفرة الروائية - التي كانت طفرة في الكم دون الكيف - نضجٌ فني وأصوات روائية تبقى وتخلد وتشارك بفاعلية في المشهد الروائي العربي، وأتطلع إلى أن تنطلق بعض تلك الأصوات من المحلية إلى العالمية.

ويوجد في أدبنا السعودي بعض الأقلام الناضجة الموهوبة التي تحترم القارئ المتذوق الذي يميز جيد الأدب من رديئه، ولعل هذه الأقلام تتخفف من أسر الرؤى الضيقة وتتعالى على النظر دوما إلى المخالف وتوظيف الرواية في الصراع ضده ليتاح لها أن تنطلق إلى الأفق الإنساني الرّحب الذي لا يتنكر للمحلية، ولا يبت الصلة مع الواقع، ولا يتجاهل الإيديولوجيات والرؤى المختلفة ولكنه في الوقت نفسه يتخذ من تلك المحلية ومن ذلك الواقع ومن تلك الرؤى محطات لا قيودا!

(*أستاذ الأدب الحديث المشارك ووكيل عمادة البحث العلمي للتطوير والجودة –جامعة الملك خالد)