المرجو من الله تعالى كما بلغنا هذا الشهر الأغر، أن يبلغ كل واحد منا فيه خيرا مما أملناه لأنفسنا، ولأمتنا، وأن يعطينا أفضل مما أعطاه المقبولين أجمعين.. من نافلة القول أن أذكر أن الممارسات الفقهية السليمة تعد من أكثر ما يسهم في تفتيت مشاكل الأمة من ناحية، ومن أكثرها تأزيما لحال الأمة من ناحية أخرى، ومن المكرر المعلوم أن الممارسات الفقهية التي مارسها فقهاؤنا الشرعيون في تراثنا الإسلامي متعددة ومتنوعة، وكلها تدل على عمق فقههم ونظرتهم الثاقبة لأسرار وحكم الشريعة الإسلامية.

يصلح بياناً لما تقدم إقراره صلى الله عليه وسلم لمبدأ الاجتهاد، بل وتدريب صحابته عليه، فلقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أسس للإذن في الاجتهاد ببعثه سيدنا معاذ بن جبل إلى اليمن قاضياً، والأمر لم يقف عند هذا الحد، بل تعداه إلى أمره صلى الله عليه وسلم سيدنا عمْرو بن العاص بالقضاء في خصومة أمام حضرته، وبعد أن التحق صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، وانتقلت قيادة البشر ديناً ودنيا إلى خلفائه الراشدين، وكبار الصحابة، واجهت الأمة أحداثاً لم تكن في عصر النبوة؛ لاتساع رقعة الدولة الإسلامية بفتح بلدانٍ لها نظم وأعراف غير مألوفة، وتوجب عليهم بحكم قيادتهم بيان حكم الشرع فيها، ولأن النصوص لم تصرح بالكثير، فلم يكن لهم إلا منفذ الاجتهاد وبما يحقق مصالح الناس.

لاحقاً الفقه أصبح علماً قائماً بنفسه، ونشط نشاطاً عظيماً، وأوجد له -عز وجل- طائفة متخصصة، فرغوا أنفسهم لذلك، وتعددت مراكزهم الفقهية، المدينة، ومكة، والكوفة، والبصرة، وبغداد، وبلاد الشام، ومصر. ورثوا علم أصحابه صلى الله عليه وسلم الذين رحلوا إليهم، وأصبح لكل مركز من تلك المراكز فقهه الذي يختلف عن بعضه بعضا من وجوه مختلفة، وكان الناتج الجميل تركهم ثروة فقهية عظيمة جعلت الفقه الإسلامي بآرائه المتعددة مسايراً لا مغايراً لتطور الزمن وتغير الأحوال.

باستطلاع سريع للتاريخ نجد أن فقهاء السلف الصالح سواء أكانوا في عصر الصحابة، أم في عصر المدارس الفقهية مارسوا الاجتهاد في الأحكام الفرعية التي لم تستند إلى نص قطعي الدلالة، واختلفت آراؤهم وتباينت وجهات أنظارهم. فعلى سبيل المثال، لقي سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو خليفة رجلاً له قضية فسأله: ماذا صنعت؟ فقال: قُضي علىَّ بكذا، قال عمر: لو كنت أنا لقضيت بكذا، قال الرجل فما يمنعك والأمر إليك؟ فأجابه: لو كنت أردك إلى كتاب الله أو إلى سنة رسوله لفعلت، ولكني أردك إلى رأي، والرأي مشترك، ولست أدري أي الرأيين أحق عند الله؟.. ويروى عن سيدنا عمر بن عبدالعزيز قوله: "ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنه لو كان قولاً واحداً، كان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ أحد بقول رجل منهم، كان في سعة".

شخصياً أغمضت عينيَّ، وقلت رحم الله أولئك الذين لم يؤد اختلافهم إلى تعصب لآرائهم، أو اعتبار أن رأيهم صواب، ورأي غيرهم خطأ، وتخيلت (العُمرين) يرددان على مسامعنا شعر شوقي:

   إِلامَ الخُلفُ بَينَكُمُ إِلاما

  وَهَذي الضَجَّةُ الكُبرى عَلاما

   وَفيمَ يَكيدُ بَعضُكُمُ لِبَعضٍ        

  وَتُبدونَ العَداوَةَ وَالخِصاما

تقبل الله منكم -أيها الكرام- صالح أعمالكم، وجعل رمضان هذا العام من أحسن الرمضانات التي مرت بكم حتى الآن.