"الباص" الذي صممته الروائية اللبنانية نجوى بركات هو اليوم أكثر الصورة مقاربة لكمٍّ كبير من شخوص المجتمع العربي، أكثر منه قبل عشرين عاما، وقت صدور الرواية، وكأن التقدم في الزمن لا يعلم العرب أن يتخلصوا من أمراضهم، بل أن يتجذروا فيها أكثر.

الشخصيات المفتتة والمريضة التي تحمل كل عاهات عصرها ورذائله، مختبئة خلف ستار زائف من الأخلاق والفضيلة والتدين، بقدر ما هو معقد، بقدر ما هو هشّ، ويمكن انقلاعه عند أية حادثة، تجتمع تلك الشخصيات في باص صغير، ومع عبوره في الأمكنة، وطريقة حركته ومضيّه في الزمن، يصبح مكانا ضيقا وخانقا للحكايات، والتي تلتقي أو تنهار جميع خباياها أمام رأس مقطوع في كيس زيتون، يكشفه رجال الأمن في بعض الطريق.

خذ من الدلالات ما تشاء، وأسقطها على مختلف التفاصيل التي تتحرك في واقع البلدان العربية.

خذ مثلا تلك الرؤوس التي تصور قطعها داعش، والتقط معها التعليقات التي تملأ مواقع التواصل بالترحيب بمثل هذه الفظائع، لكن بطرق مواربة. الجريمة المخبوءة والكامنة في راكبي هذا الباص/البلدان، نتيجة البيئات والثقافة والموروث والعادات والترسبات الفظيعة والمتناقضة التي أنتجتهم. حيث يفضي انكشاف جريمة واحدة إلى انكشافات أعمق وأكثر هولا وفداحة، في ضمير هذه الشخصيات/ الشعوب، الشريكة في هذا الحزّ.

هذه الرواية بسوادها المرّ إلا أنها في غاية الدقة، وقد وضعت سيلا من الآفات في العراء، وعبر حكايا يومية، تنمّ عن الجحيم المريع الذي ينتج هذه الحيوات المنافقة، التي تُبدي صيغ التدين والفضائل في العلن، بينما تنطوي خفية على أكثر الشرور فداحة.

الشخصية الوحيدة التي كانت أقل اضطرابا وأكثر صدقا هي شخصية السكير، الذي قضى معظم الرحلة خارج الواقع أصلا، إما مخمورا أو نائما، وكأنه ما من طريقة للتعاطي مع هذا الواقع سوى الخروج منه.

كتبت نجوى ص127: "في الأرض كانوا جميعا تزحف نظراتهم على ظهر رجل الأمن، وقد وضع رشاشه جانبا وانحنى ممعنا في التقصي والمعاينة والملامسة، وما هي سوى لحظات حتى رأوه يستقيم ويستدير ناحيتهم بوجه مكشوف اللثام، ترتسم عليه ابتسامة الانتصار، فيما كان يرفع الرأس المقطوع من شعره، كأنما ليُري الجموع المصير الذي ستؤول إليه".

الرواية صدرت في طبعتها الأولى عام 1996 عن دار الآداب اللبنانية، وحازت بها السيدة نجوى بركات جائزة الإبداع العربي في العام التالي. باص الأوادم.. حافلتنا الكبيرة.