للحرب عموما تفاصيل موجعة للغاية، مهما اختلفت تفاصيلها، فإن لم تكن قتلا كانت دمارا وخرابا، وإن لم تكن كذلك كانت أسوأ من ذلك، وأكثر إيلاما في نفوس أصحابها، وهو فقد الأهل والأقارب في ميادين القتال، في حالة كانوا من المحاربين، أو فجأة ودون مقدمات كما يحدث لبعض المدنيين الذين يستهدفهم بعض أطراف القتال، دون أن يكونوا من المشاركين فيه. وهؤلاء المفقودون الذين لا تعرف عائلاتهم وذويهم مصائرهم، أو ما حدث لهم، يظلون غصة في حلوق ذويهم، الذين يظلون يتساءلون دائماً عما إذا كانوا أحياء أم أموت، يراودهم الأمل تارة في احتمال الحصول عليهم أحياء، ويغلب عليهم اليأس في أحايين أخرى، لكن دون أن يعثروا على إجابة تشفي القلوب من ألمها وحرقتها، على أقارب فقدوهم جراء استمرار الصراعات في بلد لا يتوقف فيه صراع حتى يظهر آخر.

ومرة أخرى، تتجدد مأساة كثير من العائلات اليمنية مع قضايا الإخفاء القسري والمفقودين في الصراعات، فهي ليست جديدة عليهم، فقد عاشوها في حرب عام 94 التي تعرض لها جنوب اليمن، والتي أدت إلى اختفاء الآلاف الذين لا يزال مصيرهم مجهولا حتى اليوم، فيما لم تقدم السلطات اليمنية أي إجابات حولها، ولا تنتهي معاناة اليمنيين مع هذا الملف، فهنالك حروب صعدة الست، التي خاضتها الحكومة اليمنية ضد المتمردين الحوثيين، وهي الحروب التي خلفت قرابة 28 ألف قتيل، و60 ألف جريح، و700 ألف نازح، ومئات المفقودين الذين لا يعرف مصيرهم حتى اللحظة.

اختفاء المعالم

واليوم يجد اليمنيون أنفسهم أمام فصل جديد ربما يكون هو الأسوأ في فصول المعاناة، المتمثلة في الحرب الأهلية التي تشهدها غالبية مدن ومحافظات البلاد، والناتجة عن التمرد الذي أعلنته الميليشيات الحوثية المتحالفة مع قوات الرئيس المخلوع، على صالح، ضد السلطات الشرعية في البلاد متمثلة في الرئيس عبد ربه منصور هادي.

ويشير عاملون في مؤسسات طبية بمناطق عدن، ولحج، وتعز، وأبين، والضالع، إلى أن غالبية الجثث التي تصلهم، سواء كانت لمحاربين أو مدنيين، لا يتم التعرف على أصحابها لعدة أسباب، إما التشوه جراء القصف والحرب، أو بسبب عمليات القنص التي يقوم بها الحوثيون وتستهدف المارة في الشوارع. ويشير مسعفون إلى أن كثيراً من الضحايا لم يكونوا يحملون هوياتهم معهم لحظة استهدافهم، وهذه عادة منتشرة لدى غالبية السكان.

غياب المعلومات

ويقول عاملون في لجنة الصليب الأحمر الدولية في اليمن، إنه حتى إذا انتهت هذه الحرب، فإن اليمنيون سيجدون أنفسهم أمام تحد حقيقي في تحديد مصير الآلاف من ضحايا الصراع، وعلى السلطات أن تكون لديها إجابات كافية على تساؤلات سوف يطرحها أقارب المفقودين عن مصيرهم، لذلك حتى بعد نهاية الحرب، فإن الأزمة سوف تستمر بالنسبة لعائلات المفقودين الذين هم في معظم الحالات من الرجال، سواء كانوا عسكريين أو مدنيين. وغالباً ما يمثل هؤلاء المصدر الوحيد لدخل العائلات. لذلك فإن فقدانهم لا يخلو من عواقب اقتصادية بالنسبة إلى ذويهم.

مأساة نازحة

وتقول السيدة سوسن الحامدي، وهي إحدى النازحات اللواتي وصلن مدينة المكلا، هربا من الحرب في عدن، في تصريحات إلى "الوطن" "لا أعرف حتى اللحظة مصير زوجي وابني، مر أكثر من شهر ونصف، ولم أتلق منهم أي اتصال، لذلك أشعر بالقلق كثيراً، ولا أستطيع النوم، ولا أدري هل هم أحياء أم أموات؟ فلا أحد يعرف شيئا عنهم. كل ما أريده أن أعرف مصيرهم حتى أرتاح من التفكير". وتضيف والدموع في عينيها "أن تفقد أعز أقربائك دون أن تعرف مصيرهم، فهذا أمر مؤلم جداً".

فيما تقول جارة لها تدعى زينب أن شقيقها قتل، لكنها لا تعرف أين ومتى، فقد تلقت اتصالا من أحدهم قال لها إن أخاها استشهد في عدن، ثم أنهى المكالمة دون أن يقدم لها أي تفاصيل أخرى.

ويعترف قادة المقاومة الشعبية بأنهم يضطرون لدفن جثث قتلاهم وقتلى الحوثيين في المواقع التي تكون تحت سيطرتهم، دون أن يتعرفوا على هوياتهم وأسمائهم. ويبررون ذلك بأنه وفي وقت الحروب يتعذر معرفة اسم وهوية صاحب الجثة التي تجدها أمامك، ناهيك عن أن بعضها يكون قد بدأ في التحلل.

قبور جماعية

ويُشير مسافرون في شهادات أدلوا بها إلى "الوطن" في محافظتي أبين وشبوة، إلى رؤيتهم للحوثيين وهم يعملون على دفن جثث قتلاهم في الصحراء بشكل جماعي. فيما قال أحدهم إنه شاهد فرقا طبية تعمل على رش مواد بيضاء تُشبه الملح على عدد من الجثث المتحللة بشكل كامل في منطقة لودر بالمنطقة الوسطى بأبين. أما المتحدث باسم المقاومة في شبوة، مبارك باراس، فقد أكد أنهم كثيرا ما يجدون قبورا جماعية أقامها الحوثيون لقتلاهم في صحراء شبوة.

وفي الضالع وخصوصا بعد معركة تحريرها، بدت شوارع المدينة ممتلئة بجثث المئات من قتلى المتمردين، التي وصل بعضها إلى مرحلة متعفنة وقد تبددت ملامحها.

تجاهل متعمد

وكانت اشتباكات عنيفة قد اندلعت أواسط الأسبوع الماضي أمس بين مسلحين من التمرد الحوثي، وأهالي منطقة مخلاف بني عمر، بمحافظة ذمار، بعد اكتشاف سكان المنطقة أن المتمردين أقدموا سرا ودون علمهم، على دفن جثث 50 من أبناء المنطقة كانوا يقاتلون في صفوفهم، عقب مقتلهم في عدن ولحج.

وقالت مصادر محلية إن الاشتباكات أسفرت عن مصرع 11 حوثيا وإصابة 7 آخرين بجراح، مشيرة إلى أن الأهالي باغتوا المتمردين بالهجوم، وتوعدوهم بالثأر لمقتل أقاربهم الذين غرر بهم الانقلابيون واستقطبوهم للقتال في صفوفهم، في معارك لا علاقة لهم بها.

إلى ذلك عمت حالة من الاستياء وسط أهالي المنطقة، الذين هبوا في وجه المتمردين، ما أجبرهم على الفرار من شوارع البلدة، واللجوء إلى قواعدهم العسكرية. وأضاف شاهد عيان أن حالة الغليان الشديد التي تسود وسط الأهالي تنذر بحدوث المزيد من المواجهات بين الجانبين.

غياب البيانات

من جانبه، يقول الناشط الحقوقي والمدير التنفيذي لمرصد حضرموت لحقوق الإنسان، فادي محروس، إن مصير المفقودين في هذه الحرب، سيكون ملفاً كبيراً ولن يغلق بسهولة، وأضاف "المفقودون لن يكونوا فقط في صفوف المقاتلين، بل هناك أعداد كبيرة من المدنيين لا يعرف مصيرهم"، مُستدلاً بحديث رئيس منظمة أطباء بلا حدود، الذي قال إن الجثث تملأ شوارع عدن. وإن الكثير منها بحاجة لتحليل الحمض النووي DNA، وهذا الأمر صعب للغاية كون أعداد الجثث كبيرة وتصل للآلاف، ناهيك عن أن هذه النوعية من الفحوص ليست موجودة في البلاد. كما أنها تتطلب قاعدة بيانات وهذا الأمر أيضاً غير متوفر.

وكانت لورانس دوشين، العاملة باللجنة الدولية للصليب الأحمر، قد تحدثت عن أن احتياجات عائلات المفقودين متعددة ومترابطة، وأن الحاجة الأولى تكمن في رغبة العائلات في معرفة مصير أقربائها. وهي مسألة مؤرقة وتسبب كربا شديدا ومتواصلا. وإن مثل هذه الأمور ليست من مسؤوليات اللجنة الدولية، ولكنها تشجع السلطات وتساعدها على القيام بذلك.  




عنصرية الحوثيين تفاقم المشكلة


وكانت المقاومة الشعبية في تعز قد اشتكت مرارا من عدم تجاوب المتمردين الحوثيين مع جهودها الرامية إلى حسم ملف القتلى والأسرى، مشيرة إلى أنها حاولت التواصل في مرات عديدة مع ممثلين للحركة المتمردة لأجل استعادة جثث بعض قتلاها، وأنهم عرضوا عليهم استلام هذه الجثث بلا مقابل، ولم يشترطوا إطلاق سراح أي من الثوار المعتقلين لديهم، لكن المتمردين لم يكلفوا أنفسهم حتى مشقة الرد على تلك الاتصالات، وتجاهلوها تماماً. واضطرت قيادة المقاومة في تعز إلى نقل جثث الانقلابيين على نفقتها وذهبت بها إلى أحد المواقع لتسليمها لقيادتهم، ومرة أخرى رفض المتمردون استلامها، ما دفع رجال المقاومة الشعبية إلى تسليم الجثث للصليب الأحمر.

ومما يزيد المأساة، ويمنحها فصولا إضافية أن المتمردين سارعوا في إحدى المرات للاتصال بقيادة المقاومة، وألحوا عليها لأجل استلام جثة أحد المقاتلين، ودفعوا بالكثيرين للتوسط لأجل إتمام الأمر، وعندما استفسر الثوار عن السبب في الاهتمام بجثة هذا المقاتل دون سواه، لم يتحرج قادة التمرد في الإفصاح بأنها تخص أحد أبناء الأسر المرموقة "الهاشمية" حسب زعمها، وأن عائلته تريد استرداد جثته بأي ثمن.

وأضاف قائد المقاومة الشعبية في تعز، حمود المخلافي قائلاً "المتمردون الحوثيون لا يبدون أي اهتمام يذكر بمصير قتلاهم أو أسراهم، ولا يبذلون أي جهد لاستعادة الأسرى، ولا يتجاوبون مع الدعوات لفرض هدنة موقتة لساعات عدة حتى يتم سحب الجثث من مناطق القتال. ليس هذا فحسب، بل رفضوا حتى تسلم جثث مقاتليهم عندما بادرنا بالاتصال بهم، وأخذناها لتسليمهم إياها".

ومضى قائلاً في تصريحات صحفية "أعداد القتلى وسط المتمردين تتزايد باستمرار، إلا أنه للأسف في حالات كثيرة يرفض الحوثيون تسلم جثث قتلاهم، وتبقى أياما ملقاة على الأرض، ومن منطلق التزامنا الأخلاقي والإنساني نسلم جثث القتلى من خلال الوسطاء. وهم يفرقون بين أنصارهم على أساس يتنافى مع المواطنة وقيم الإنسانية، وتعليمات الشريعة الإسلامية، فقبل أيام عدة رفضوا تسلم تسع جثث من قتلاهم، رغم أننا قمنا بنقلها إلى إحدى المناطق التي يسيطرون عليها، وبعد ذلك اضطررنا لنقلها إلى مستشفى الثورة الحكومي، وقمنا بإعادة الاتصال بهم لتسلم جثث قتلاهم، ولكنهم قالوا إنهم يبحثون فقط عن أحد قتلاهم الذي ينتمي إلى أسرة مرموقة في صنعاء، وأن هناك علامة في وجهه. اهتموا به دون سواه لأنه كما يرون حسب معتقداتهم الباطلة "من سلالة طيبة"، ولم يكترثوا للآخرين الذين غرروا بهم، لم يسألوا عن الثمانية الآخرين وفي الأخير لم يأخذوهم ورجعنا ودفناهم، لدينا شهيد له ثلاثة أيام بجبل جرة شمال المدينة لم يسمحوا لنا بأخذه وكلما اقترب أحد أطلقوا عليه النار.

ويشير محللون إلى أن الحوثيين الذين يتعاملون بهذا المستوى من التجاهل مع جثث قتلاهم، لا بد أنهم يتعاملون بصورة أكبر مع قتلى المقاومة الشعبية الذين سقطوا في مناطق كانوا يسيطرون عليها هم، ولم يستبعدوا أن يكون المتمردون قد طمروا جثث جميع القتلى في مقابر جماعية، دون تمييز بين أي منهم، سواء كان في المقاومة أو في صفوف التمرد.

وقال المحلل السياسي ناجي السامعي في تصريحات إلى "الوطن" إنه ليس مستغربا أن يتجاهل المتمردون إيضاح هويات الأسرى أو القتلى الذين سقطوا في ميدان القتال، سواء كانوا من أتباعهم أو من المقاومة الشعبية، مؤكدا أنهم لا يهتمون بأي قيمة إنسانية حتى يقوموا بهذا العمل. وأضاف قائلا " ليس لهؤلاء المجرمين أي عهد بالقيم أو الإنسانية، فمن يعتدي على الآمنين في منازلهم، ويصوب فوهات بنادقه على الأطفال والشيوخ والنساء، لن يبدي حتما أي اهتمام بتوثيق هويات القتلى، فمن لم يكترث للأحياء، ولم يعظم الروح التي حرم الله قتلها إلا بالحق، من باب أولى لن يعير اهتماما لمن قتلوا بسبب نيرانه، ولن يكون لديه حرص على إيصال حقيقة مصائرهم لعائلاتهم".