الإعلام أصابته لوثة الاحتواء على شباك الإعلانات وعداد المشاهدة! الإعلام منذ أن عمَّت سماواتنا القنوات الخاصة والمفتوحة، وربي ابتلانا بهلع التكالب على المال والإعلانات وما يسمى بـ"عداد المشاهدة"، ومن المفروض أن هذا التنافس يكون بشرف وبوسائل بناءة تخضع لمعايير الإعلام وشرفه وقوة تأثيره! فلا يمتلك العربي سوى "الشرف". الإعلام يا سادة أصبح معولا يفتّ في عضد الوطن، والمشاهد يؤثر ويتأثر بطبيعة الحال، ونبقى في دائرة "البيضة والفرخة".
أمتنا العربية تصدعت بسبب ما يسمى السبق، وما يسمى كثرة المشاهدة، أَوَلا يعلم هؤلاء أنهم هم صناع الوجدان؟ وهم المربون الأولون لثنايا النفي في ضوء مشاهد مسكين تعوّد منذ الأمس القريب على تصديق كل ما يقال؛ لأن الإعلام كانت تربطه مواثيق شرف ونزاهة ومراقبة ولجان مشاهدة تسمح بهذا وترفض ذاك.
أتذكر أن إحدى لجان الاستماع في الإذاعة المصرية كانت مكونة من
عبدالوهاب وأم كلثوم وغيرهم من عمالقة الفن؛ ولذا كانت آذاننا لا تصدأ كما صدئت اليوم، أتذكر أن لجان الرقابة في مصر كانت تحوي قوانين صارمة تطبق ودون تأفف أو اعتراض، لأن مصر هي "صنبور" الفن والإعلام!.
أما الآن فعندما اعترضت الرقابة على فيلم "حلاوة روح" قامت الدنيا ولم تقعد!. لماذا هذا الاعتراض ألا تثقون في حكام تم تعيينهم لهذا الغرض وهذه وظيفتهم؟ منذ أن قامت الثورات ولم يعد هناك احترام لأي قرار ليس على الهوى، وكأننا في قرية ضرب شيخها على رأسه فنصب كل واحد نفسه شيخا حتى رعاة الإبل والأغنام!.
الإعلام لم يعد ذاك المحلي وذاك العربي وذاك الدولي، بل أصبح إعلاما يخصنا نحن في أي مكان لأننا نتلقاه كحبات الـ"أنتي بيوتك" قبل الطعام وبعده.
اسمحوا لي -أيها السادة- أن أحمل الإعلام كل ما يجري في شوارعنا وفي حاراتنا وفي أدغال غاباتنا، لأن الوجدان قد تلوث "بفيروس" حمى المشاهدة، فيتم التلاعب بالذهنية بقصد أو دون قصد. اسمحوا لي يا سادة أن أسأل سؤالا واحدا فقد يكون فيه الشفاء: كم من واحد تخرج من كلية الإعلام يعمل في إعلامنا العربي؟ قد لا تصل نسبتهم إلى الربع! وهذا مؤشر خطير لأن كليات الإعلام تعتني بتعليم المنهجية والحرفية التي تأتي "بعدّاد" المشاهدة مع مراعاة الانعكاسات والمؤثرات وبنية المجتمعات.
أما الآن، فيأتوننا بإعلاميين ليسوا متخصصين؛ فمنهم المحامي والطبيب والممثل النجم اللامع، وكل ذلك جيد بالنسبة لهم ونحترمهم على أية حال، ولكننا في نهاية المطاف لن نأتي بطبيب أسنان يعالج أمراض الباطنية، هذا إن كان من نفس التخصص، فما بالك لو جئنا بسباك يعمل عملية جراحية ليس إلا أنه يعرف كثيرا من رجال الأعمال الذين سيأتون للعيادة أو المستشفى ويملأونها؟!
إنها نفس المشكلة، ولم نجد من يضع للإعلام قوانينه وأسسه، فالإعلام يا سادة هو المحرك الأول للشعوب، لأنه يصنع ذاتهم على حين غرة!
في أحد البرامج تم سؤال راقصة عن سبب نشرها فيديو غير لائق على اليوتيوب فماذا أجابتهم؟ قالت: حينما عرضت عملا جيدا ومصروفا عليه ومدروسا ومحتشما لم يشاهده أحد بل خسرت كل ما أنفقت! إذا فالمتحكم فيما يبث في ضوء ما يسمى بالإعلام الخاص هو المكسب والخسارة وهذه كارثة كبيرة، لأن السعي وراء المكسب يجعل الرسالة في المرتبة الثانية، وبالتالي هذا ما نراه من تلوث سمعي وبصري، وحينما كان الإعلام مدعوما لا يهدف إلى الربح كان لدينا إعلاما غاية في الجودة بالرغم من قلة القنوات.
دعونا نتابع هذا في عالم المسرح. عندما انتشر ما يسمى بـ"المسرح الخاص" هبط المسرح إلى أدنى مستوى؛ لأنه كان يخضع "لشخشخة الجيوب"، لكن رجال المسرح والفن الغيورين عليه عملوا على سحب البساط من تحت قدميه بهدوء وحرفية، فامتلأ المسرح الحكومي بنجوم المسرح الخاص، وبالتالي قُفل المسرح الخاص إلى غير رجعة. ولكن ذلك تطلب من الدولة تحمل أعباء الإنتاج غير الهادف إلى الربح؛ والآن انتقل "الفيروس" اللعين إلى الإعلام وقنواته وصحفه، فمن هو المنوط بالنهوض بالإعلام سوى رجاله كما فعل رجال المسرح؟
سمعنا عن ميثاق إعلامي في طريقه إلينا يشدد على احترام القيم والأخلاق وحرمة الحياة الخاصة للمواطنين، وحقوق وكرامة الإنسان، والامتناع عن التحريض على الكراهية والعنف والإرهاب، وعدم بث المشاهد الخليعة أو الإيحاءات والمعاني البذيئة، أو الجنسية الفجة، والسوقية.
فهل يمكن لمجلس التعاون أو جامعة الدول العربية أو الإعلام العربي كله في موقف موحد اتخاذ أو تنفيذ مثل هذا الميثاق؟ لم يعد في الوقت بقية والبيوت تخترق والأجيال تتلقى، فما ينشر سوى العنف أو الكراهية أو الحنق بين الطبقات، أو حتى الترويج لأفكار شاذة وبذيئة تصل إلى ازدراء الدين، وسب الصحابة والتابعين في بعض الأحيان!
أما على مستوى التلقي والتأثير فينا وفي شوارعنا فلا تعد ولا تحصى، أتذكر أنه في العام قبل الماضي عندما عرض فيلم "عبده موتة" خرج الشباب في الطرقات يرقصون بالسلاح الأبيض ويقطعون الطريق بالرقص والسلاح! أما في هذا الشهر الكريم فقد انتشرت برامج وفنون برامج القسوة، وما أدراك ما فنون القسوة؟ نظرية فنون القسوة ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تم فيها ما تركته هذه الحرب في نفوس المجتمع والفن والفنانين، وقد تجلى ذلك في مسرح القسوة للمخرج الفرنسي "أنطوان آرتوا"، وأعتقد أن ظهور فنون القسوة لدينا ما هو إلا نتاج للثورات العربية والحروب الطاحنة في أرجاء الوطن العربي.
فأصبحنا نضحك على كل ما يقدم من قسوة ونستلذ بمعاناة الآخرين، وعلى سبيل المثال ما يقدم في برنامج "رامز واكل الجو" تقديم الفنان رامز جلال، ومثيله الآخر برنامج "هبوط اضطراري" تقديم الفنان هاني رمزي، وغير ذلك من أفلام القتل والدم ودون أي رسائل درامية سوى مكسب المنتج وسيادة رأس المال. نحن نعبث بوجداننا، وبتكوين وعينا، ونعبث بكل شيء، لأن رأس المال هو السائد على أي حال ما دامت الفنون غير الهادفة للربح تراجعت تلك التي ترعاها الدول ذاتها، فأين المفر، وأين الميثاق الإعلامي الذي انتظرناه حتى جف الريق؟