وإذا كان فضيلة الشيخ، بعيد ثلاثة عقود من القضاء، هو من يفتح النقاش في المجلس العام ليدافع بكل شراسة عن جواز تزويج الطفلة في سن التاسعة، ثم يضيف: إن استوفت الشروط! وإذا كانت هيئات حقوق الإنسان لا عمل لديها إلا رصد هذه الحالات الموغلة في الوحشية التي كان آخرها قصة الطفلة التي أصبحت أرملة مطلقة في سن الثانية عشرة بعد زواج دام لأربع سنين، ولكم بحسبة منهج الرياضيات في الصف الابتدائي الأول أن تطرحوا الفارق ما بين الرقمين – المخجلين – لتعرفوا طبيعة المجتمع الذي تقبل زواج طفلة في سن الثامنة. هذه – الغابة – السوداء لم تأت بقصصها من المريخ ولم تنبت في زحل، بل بيننا نحن طالما كانت هذه – الطفلة – سلعة ما بين – المشتري – والبائع. والمضحك، وللمفارقة، أن حقوقياً شهيراً يقترح على كل – قاصرة – تجبر على الزواج أن تلجأ للقضاء أو تتجه لهيئة حقوق الإنسان، واقتراحه المخجل أيضاً يبرهن أن لدينا إعاقة لغوية قاموسية: كيف يمكن أولاً لطفلة ما بين الثانية الابتدائية إلى الصف السادس أن تستوعب طبيعة مفردات مثل القضاء وحقوق الإنسان، ناهيك عن أن نطالبها بفهم طبيعة وظائف هذه المؤسسات. هذه الطفلة القاصرة أقصر حتى من كتابة هذه المفردات القضائية والحقوقية في جملة سليمة، فمنذ متى وطفل أو طفلة في سن العاشرة يستطيع الذهاب إلى القضاء أو يطرق مكاتب حقوق الإنسان؟ كيف يمكن ثانياً لطفلة قاصرة أن تذهب للمكتب القضائي؟ وكيف يمكن لها استعراض قضيتها إذا كانت الإجراءات القضائية نفسها هي من ترافع على جواز هذا الفعل؟

وبعيد نقاشي مع صاحب الفضيلة الشيخ القاضي (بالسطر الأول) بعاليه، بأيام، بادرني فضيلته بالاتصال وهو يشير إلى ترجمة إحدى مقالاتي السابقة عن (زواج القاصرات) في صحيفة – نيويورك تايمز – نقلاً عن (Arab News) وهو يحتج أن مثل هذه المقالات تتحول إلى سلاح بيد أعداء ثقافتنا، وتتحول أيضاً إلى عصا في الهجمة الإعلامية الغربية على النسق الديني والفكري المحلي. وبالطبع، فأنا لم أسْعَ على الإطلاق لا من قبل أو بعد للكتابة إلى غير مكاني الذي عرفت به القراء الكرام، وتهمة أن مقالي مثل ما قال فضيلته بالحرف (يعطي الآخرين قصة إخبارية) تعود بنا للسؤال الأصل: ومن هو منبت ومشتل هذه التهمة؟ نحن الذين نعطي الآخرين هذه القصص، ومن المؤكد بمكان أن ثورة الاتصال الكوني لم تعد تسمح للمجتمعات المختلفة أن تعشعش بقصصها في كهوف مغلقة. الذي أعطاهم هذه القصص هو من سمح لبيئتها بأن تتجاوز حدود المألوف، وأن تتكاثر بهذا الشكل المخيف إذ يكفي لصحيفة محلية أن تنبش قصة واحدة، لتكشف في الصباح التالي عشرات القصص المماثلة. أما لماذا يحتاج فضيلة الشيخ إلى الاحتجاج بتبريرات مثل – السلاح المضاد – أو – العصا- التي تنقلب على أنساقنا الدينية والفكرية، فلربما كان ذلك اعترافاً مبطناً بأن هذه الحالات الموغلة في انتهاك حقوق الإنسان والطفل، ستكون خطأ في الداخل أو الخارج، ولو كان موقفنا الإنساني واثقاً من سلامة ونجاعة هذه الأفعال والممارسات، لما رأينا فيها أدنى حرج حين نشرها في صحف محلية أو أجنبية.

نحن لم نضطر للتبرير حين اتهمنا الإعلام الغربي بالتضييق على حرية الأديان وبناء المعابد، ولم نشعر أيضاً بأننا تحت الهجوم أبداً حين كان ذلك الإعلام يناقش ثوابتنا التي نؤمن بها في حجاب المرأة، ولم نشعر مثلاً بالضيق على الإطلاق حين كان ذلك الإعلام (المضاد) يناقش أننا المجتمع الوحيد الذي لا تقود فيه المرأة السيارة، وأننا أيضاً من بين ثلاث دول فقط أو (أربع) تحظر صناعة وبيع الخمور والمواد الكحولية. مع تلك القضايا التي كانت محاور جوهرية في صدامنا الإعلامي مع الغرب؛ لم نشعر بالحرج ولم نشعر أيضاً بطعنة ظهر، فلماذا اختلفت القصة مع المشكلة الاجتماعية في زواج القاصرات التي تشعرنا بالضيق حين نشرها في الصحافة العالمية؟

ومن المؤسف بمكان أن قصة – الطفل – كانت محور نقاش وجدل حتى في مجلس الشورى، الذي اختلف أعضاؤه في جلسة عامة على تحديد السن القانونية التي يستحق فيها الطفل هذا الوصف، بينما نحن – كحكومة رسمية – من أوائل الموقعين على الاتفاقيات الدولية لحماية حقوق الطفل، بكل ما تحمله هذه الاتفاقية من توصيف لسن الطفل وأهليته، وتوظيف الوصف الطبيعي لبيولوجيته.

وهنا سكت العدل تماماً عن زواج القاصرات، رغم بروز الحقيقة الأخرى الصارخة: لأن هؤلاء القاصرات يأتين من البيئات الأشد فقراً، ويكثرن في الزوايا الاجتماعية المظلمة بين الأشد جهلاً، فلن يستطيع أحد على الإطلاق أن يبرهن اليوم عن حالة واحدة وحيدة من أطفال الأثرياء، أو المتعلمين أو السادة أصحاب الفضيلة والسعادة.

كل ما يحصل لهذه الشريحة المؤلم وضعها ليس إلا استعباد الفقر والجهل، وليس آخرهن تلك الأم المكلومة التي ذاعت بها الأخبار، وهي تقف في الصورة بين بناتها الأربع: أطفالاً مطلقات أكبرهن اليوم في سن السابعة عشرة، وهي تعيد زواجهن إلى الفقر والحاجة. لماذا لم يزوج الغني ابنته القاصرة؟ ولماذا لا يقبل صاحب الفضيلة بزوج لابنته في سن التاسعة؟ هذه هي الأسئلة الصريحة التي لا مناص من إثارتها في وجه كل من يجيز أن تباع الطفلة الصغيرة باسم – الزوجية – بينما نكتشف أن – الزوجية – المشار إليها مجرد تمرير للاستمتاع؟

ما هو العقل السوي الذي يقبل بزوج في سن الخمسين لطفلة في سن العاشرة؟ وما هو العقل السوي الذي يظن أن طفلة الصف الثاني المتوسط ستكون هي أيضاً – أماً – لطفلة في الصف الأول الابتدائي؟